تنخرط الساحة الفكرية العربية المعاصرة في حديث جاد حول مفهوم الحداثة في أبعادها العلمية و السياسية والأخلاقية والإستيطيقية، وحول الطرق المؤدية إليها، ذلك أن حضورها بات واقعاً لا مفر منه إذا ما أردنا ترميم فضاءاتنا المثقوبة، لكن غالبا ما يتم تناسي أحد ركائزها الأساسية، بل وأحد أبعادها الأكثر تجليا وتأثيرا في الأبعاد الأخرى ألا وهو بعدها الديني، أو ما يصطلح عليه بمفهوم الحداثة الدينية الذي يمكن أن نعتبره ، إن شئتم الرحم الذي تنبثق منه كل أشكال الحداثات الأخرى.
نحن اليوم أكثر مما مضى، في مسيس الحاجة إلى تعرية الدين من ملابس العقائد النظامية السائدة، وإظهار مفهومه الجوهري؛ أي الدين القائم على العقل المحض الذي لا يسمح لأية جهة كانت بتوظيفه أو استثماره لخدمة مصالح معينة. يقول كانط: " إن الأغشية التي تحتها أول الأمر يتشكل الجنين إنسانا، ينبغي أن تنزع حتى يظهر إلى النور. إن الشريط الهادي للتقاليد المقدسة، بملحقاتها ولوحاتها والقيود الرهبانية، الذي قدم خدمات جيدة في زمانه، قد صار شيئا فشيئا بلا جدوى، بل في نهاية الأمر قيدا متى بلغ المرء عمر الشباب".
إن الإنسان لا يجهل الكيفية التي من خلالها عليه القيام بالفعل. لكنه يجهل لأجل ماذا عليه أن يمارس هكذا فعل، حيث يتملكه نوع من الشعور المستمر بحاجته إلى غاية معينة تمكنه من إيجاد نوع من الانسجام بين ما يجب عليه أن يفعل، وبين ما يمكن أن ينجر عن فعله. وبما أن الأخلاق لا توفر للإنسان سوى الإمكانية الأولى، فإنه يجد نفسه مضطرا إلى البحث عن فكرة توفر له الإمكانية الثانية؛ أي تلك الفكرة التي تمكنه من إيجاد الغاية من وراء فعله، وهذه غالبا ما يقدمها له الدين. لكن يشترط في هذه الفكرة أن تكون قابلة للتبرير من طرف العقل، أي أن تكون غاية حرة غير خاضعة لأي نوع من الإكراه والمصادرة. وفي هذا يقول كانط: " إن الأخلاق إنما تقود على نحو لا بد منه إلى الدين، وعبر ذلك هي تتوسع إلى حد مشرع خلقي… في إرادته تكمن تلك الغاية النهائية (لخلق العالم)."
ومن أجل ذلك، فليس الدين هو مصدر الأخلاق كما يتوهم غالبية الناس بل العكس هو الصحيح، وهذا ما يعبر عنه الدكتور فتحي المسكيني في عبارة رشيقة ودالة : "لا يصبح الإنسان متخلقا لأنه متدين، بل الأمر بعين الضد، إنه لا يصبح متدينا إلا لأنه متخلق، أي قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته." وبالتالي، فوجود شيء يقدسه الإنسان معطى ضروري غيابه يفرغ الفعل الإنساني من المعنى، بل يجعله تائها في صحراء شاسعة دون وجهة. لكن احترامنا لهذا الشيء المقدس يجب أن يكون احتراما حرّا خاليا من الإكراه والقهر و المصادرة التي تفرضها عليه الشعائر النظامية المنغلقة، أي ألا يتنافى احترامه مع قوانين العقل المحض؛ ذلك أن هذا الاحترام نابع من حاجة خلقية في طبيعتها، وليس من خوف كسول من المجهول. ومن ثمة، فإن الدولة لا تحتاج إلى الدين حتى تفرض سلطتها على المواطنين، لأن طاعة السلطة أمر أخلاقي بالدرجة الأولى وتغليفها بلباس ديني لن يضيف إليها أي شيء.
تحركنا ضمن دائرة حدود العقل، ليست إشارة دالة على موقف محتقن من العقائد الدينية بقدر ما هي إشارة دالة على قدرتنا المطلقة على الحرية، أي رفض الخضوع لأية وصاية على عقولنا وطرائق تفكيرنا حتى فيما يتعلق بالمسائل الدينية، يقول كانط في هذا الصدد: إن " دينا، يعلن الحرب على العقل من دون تفكر في العواقب سوف لن يتمكن مع طول المدة من الصمود أمامه. "وحتى نزيل بعض أوجه التعارض الذي يبدو للبعض أن وجودها قائم بين الدين والعقل المحض يدعونا كانط إلى فتح الدين على العقل و فتح العقل على الدين، وذلك لن يتسنى لنا إلا بتحاشي استعمال كلمة دين استعمالا مغلقا ( دين يهودي، دين مسيحي، دين إسلامي، دين بودي…) واستعمالها بدل ذلك استعمالا منفتحا ( دين عقلي محض، دين العقل البشري)، وليس دين شعب دون آخر، إنه الدين الحق المتأصل في طبيعتنا البشرية دين الكائنات العاقلة . هذا الاستعمال المنغلق لكلمة دين أدى إلى تشكيل فهم خاطئ حول ما يصطلح عليه بحرية المعتقد، إذ ليس التعسف الديني هو أن نمنع شخصا ما بالتمسك بعقيدته، التعسف الديني هو منعه من اتباع عقيدته بشكل عمومي كوني منفتح، وبالتالي فإن من تسميه السلفية الاستبدادية المتوحشة كافرا ليس هو في حقيقة الأمر سوى مؤمن مختلف عنا.
هذه التدوينة نشرت في موقع ذوات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.