حياة الإنسان هي صيرورة من الزمن ومراحل متعاقبة تختلف من مرحلة إلى أخرى، طفولة وفتوة وشباب ثم كهولة ثم هرم، منا من يستكمل هذه المراحل، ومنا من يتعذر عليه ذلك، إثر نداء النهاية المؤقتة لأجل استئناف بداية أخرى بعالم آخر لا علم لنا به إلا ما علمنا من نبأ الغيب على لسان الوحي.
هذه الحياة غالباً ما يحياها الإنسان بين صراعات متعددة سواء في علاقاته الإنسانية في نطاق الأسرة أو الصداقة أو الزمالة أو في علاقاته بالموجودات من حوله ومتطلبات العيش اليومية، أو في علاقاته بذاته، وقليل منا من يحسن التعامل مع هذه الصراعات والجاذبات والتحديات، وأحياناً كثيرة المعيقات التي هي أشد ما يخشى الإنسان في سلوكه إلى أهدافه ومراميه التي يرسمها في مخططاته.
لكن الكل يتفق على فكرة أنه يسعى في خضم صراعاته اليومية وسعيه الحثيث وانشغاله الدائم ومخططاته يسعى إلى تحيق الحياة الطيبة، لكن نادراً ما ندرك معنى الحياة الطيبة.
فمنا من يلخصها في تحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي المادي، مما يسد حاجته من الغذاء واللباس والسكن والتعليم والتطبيب، ومنا من يرفع السقف قليلاً، فيضيف إلى ذلك رغبته بامتلاك بيت مجهز بأحدث الأثاث والأجهزة والغرف والواجهات و.. ومدخول شهري يكفيه على متابعة العيش بهذا المستوى أو أكثر.. وفئات أخرى لا تكتفي بهذا، بل تسعى إلى منافسة من يمتلكون أفخم المنازل وأحدث السيارات وكبرى الشركات والعقارات و… وفئات لم تعد تدرك قيمة الأشياء بسبب كثرة امتلاكها، ومنا من يرى الحياة الطيبة في شفائه من المرض الذي أنهك جسده، ومن يراها في خلاصه من الفقر والحاجة، بحيث يرى أنهما سبب تعاسته وأنه يحيا على هامش الإنسانية.
وفئات أخرى وأخرى وأخرى.. كل يرى الحياة الطيبة بحسب حاجاته.
إن ربط الحياة الطيبة بتحقيق الأهداف والغايات الدنيوية سلوك يجعل الإنسان لا يدرك المعنى الحقيقي للحياة الطيبة، بل يجعله يعيش على الانتظار وأن السعادة والرفاهية والراحة و… هي أمور تتحقق مع تحقق متطلباته ووصوله إلى أهدافه، وبذلك يفقد الإنسان سعادته الآنية وتفوته فرصة الحياة الطيبة التي تحملها ثنايا عيشه اليومية.
فيعيش منتظراً رافضاً الواقع الذي يحياه غاضباً منه، منزعجاً غير راغب فيه، وهذا لا ينفي أن متطلباته مشروعة، بل هي حقوق مكفولة له، لا حرج في السعي لتحقيقها، لكن فكرة ربطه للسعادة والطيبة في الحياة بها، تجني عليه وتجعل ذوق السعادة يغيب عنه؛ لأن السعادة عندما ترتبط بالأشياء، فإنها تفقد بريقها وقدرتها على رفع الإنسان من عالم الأشياء والموجودات إلى عالم الرقي والإحساس بالطمأنينة والارتياح والأمن.
هذه الأحاسيس التي يفقدها الإنسان عندما ينتابه القلق من ضبابية المستقبل أو الخوف من محيطه الذي كثيراً ما يظهر متكالباً عليه، أو فقدان الثقة في الذات والعجز عن خوض التجارب وأخذ القرارات، هذه التخوفات وغيرها تجعله يكد ويتعب ويشقى من أجل ضمان استمراريته في أحسن الظروف وتأمين ذاته.
إن حقيقة الحياة في القرآن الكريم، جاءت متكاملة بين ما هو مادي وما هو معنوي، قال تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، لقد ربط القرآن الكريم بين العمل الصالح والحياة الطيبة، فهي إذن نتيجة للصلاح، فالعمل الصالح يعود أثره على الإنسان نفسه، بحيث ينسجم مع فطرته المحبة للخير، فتُبعث في قرارته سكينة وثبات وطيبة في حياته، فالنفس الإنسانية تجد حقيقتها وكنهها في سعيها لما يحييها حقيقة، إذ كثيراً ما يقف الإنسان مع نفسه فلا يدري أهو حي أم مييت، وليست الحياة هنا حياة التنفس واشتغال أعضاء الجسد، بل حياة الروح واشتغال الوجدان، فالقلب عضو من أعضاء الجسد عمله دلالة على حياة الإنسان وتوقفه دلالة على موته، لكن عطالته عن أداء مهمته في التمييز والحكمة، وجلب الخير ودفع الضرر يميت الإنسان بقدر أكبر مما يحييه.
إن الدعوة إلى الحياة في القرآن الكريم بارزة وموضِحة لمعنى الحياة الحقيقي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال:24). ما يُحيي الإنسان حقيقة هو يقينه بوحدة خالقه وصدق رسالاته وصلاح شريعته، ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ (الأنعام:122). فحياة الإنسان الحقيقة هي في عمله وفق شرع الله.
إن الحياة الطيبة تستمد طيبتها من تلك العلاقة العمودية الرابطة بين الذات البشرية والإلهية والمنعكسة على العلاقة الأفقية بين الذات الإنسانية الفردية والجماعية وباقي الموجودات من حولها، فحضور الجلال الإلهي يشكل دعم نفسي واستقرار تصوري ينعكس على الواقع اليومي للإنسان
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ فالضنك هو بؤس الحياة ورتابتها.. وهو نتيجة مباشرة لغياب تلك الرابطة بين الخالق والمخلوق، فضلاً عن أنه نتيجة منطقية يثبتها العقل لإخفاقات أو فشل في تجارب أو مخططات أقدم عليها الإنسان، إلا أن القرآن الكريم يبين أن هذه الأسباب ما كانت لتؤدي بالإنسان للضنك لولا إعراضه عن من بيده ملكوت السماوات والأرض.
فالظنك هو العيشة القاسية الكئيبة التي لا ينفع معها مال ولا بنون ولا أحدث وسائل الرفاهية، فتكون النفس بائسة يائسة محزونة، لا تعرف للفرح دليلاً ولا للطمأنينة سبيلاً، معيشة همها الوحيد التوفير المادي، منغمسة في كل ما هو حسي، وهذه الحياة العادية ليست كل الحياة، بل إن اقتصار الإنسان عليها يجعلها بمنطق القرآن أشبه بالموت، فالإحساس الملموس المادي هو جزء من الحياة وليس كلها، بل لا بد من استحضار بعدها الروحي، ولسنا هنا نفرق بين الروح والجسد أو بين العقل والقلب فنجعل لكل منهما طريقاً ومنهجاً يخالف ويختلف عن الآخر، بل لا بد من التأكيد على أن الإنسان خُلق على مبدأ التكامل لا التجزيء، فكلما عمد إلى الأحادية وغيب التكاملية في ذاته، تخاصم مع فطرته وجبلته، وبدا غير منسجم مع محيطه والموجودات من حوله وكانت مآلاته في غير صالحه.
لقد أعطى القرآن الكريم للحياة مفهوماً أوسع، مما سيتناسب مع الغاية التي وجد لأجلها ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ (الجاثية:24). ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم). فالحياة حياتان أولى ظاهرة دنيا، وأخرى خفية عليا، واقتصار الإنسان على الحياة الدنيا، هو الذي يكرس لديه تلك المخاوف والتوجسات إلى ذكرنا سابقاً بينما يقينه في الحياة الأخرى يوسع مداركه ويعمق نظرته للحياة ويرسخ في قرارته الطمأنينة والثبات والتريث والأمن.
إن حقيقة الموت التي أمن بها الإنسان عن تجربة، جعلته يفقد أمله ورغبته وظنه بالخلود في هذه الحياة وهذا الإيمان بعدم الخلود مسؤول عن زرع الخوف لدى الإنسان، وفقدان الثقة كما أن يقينه بعدم العودة إلى الحياة مرة أخرى، يولد عنده خوفاً من الموت باعتباره في نظره نهاية ليس بعدها استمرار، بينما هي مجرد حدث لاستئناف استمرارية من نوع آخر بتصور آخر ومجال آخر، ومن عاش الطيبة بمفهومها الوجودي والقيمي أدرك الحياة الحقيقة، بينما من غابت عنه معاني الطيبة ودواعيها، فاتته مدركات بها تسمو آدميته وترتقي نحو حياة إنسانية حقيقية لا يتعارض فيها ما هو حسي وما هو روحي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.