تحدثت في مقالات سابقة عن استبداد منصات التواصل الاجتماعي والتدمير الممنهج للمجتمع الذي تتسبب به، وناقشت إجمالاً أهم التغييرات المطلوبة في ممارساتها بشكل عاجل. ولكن المؤكد أنها لا تملك الدوافع الكافية للإقدام على ذلك التغيير، وبالنظر إلى الفشل المتتالي لدعوات المقاطعة التقليدية لهذه المنصات على خلفيات متعددة وفي مناسبات كثيرة على مر السنوات، يبقى السؤال هو: هل سيتم قريباً إجبارها بشكل أو بآخر على التغيير؟
في الحقيقة أن ذلك وارد الحدوث وغير مستبعد، فمؤخراً علت أصوات المشاهير وذائعي الصيت من إعلاميين ومؤثرين ونشطاء بالشكوى من هذه الممارسات بشكل أو بآخر. وربما، وأقول ربما، لن يمر وقت طويل قبل أن يدرك بعضهم أن بيدهم الأخذ بزمام المبادرة لإحداث الضغط المطلوب على هذه المنصات، وإنقاذ العالم دون مبالغة من المصير البائس الذي تقودنا إليه ممارساتها، وأن كل ما ينقصهم هو الاستراتيجية المناسبة وبعض التنسيق. فإذا كانت مقاطعة هذه المنصات شديدة الصعوبة بسبب الاعتماد المفرط عليها، فإن العشوائية في الماضي كانت العامل الآخر الذي قضى على أي فرص ضئيلة لنجاحها. فكلما غضب البعض من منصة ما، تعالت دعواتهم لمقاطعتها، ثم يهدأ الغضب بعد بضعة أيام ويُنسى الأمر تحت ضغط الاحتياج، ليتكرر نفس المشهد مع لحظة الغضب التالية وهلم جراً… لذا فمن المنطقي أن نتوقع تشكيل بعض المشاهير قريباً لما يشبه مجموعة ضغط افتراضية تحت شعار "الدفاع عن حقوق مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي" وذلك لتنسيق الضغط ومفاوضة المنصات على التغيير، وفي نفس الوقت دعمها في مواجهة أصحاب النفوذ الساعين للمزيد من القمع لحرية الرأي.
ولكن ماذا عن الاستراتيجية المتوقعة حينها؟
إذا أرادت مثل هذه المجموعة النجاح في مهمتها فسيُتَعيَّن عليها محاولة توجيه وتنسيق جهودنا نحن المستخدمين بكل تعدُّداتنا واختلافاتنا من أجل تحقيق هدف استراتيجي على مدى فترة متوسطة ربما تصل إلى نحو عام تقريباً، ولن يكون أمامها خيارٌ سوى التركيز على واحدة فقط من هذه المنصات وجعلها عِبرة تَقُضُ مضاجع البقية وتجبرها على إعادة التفكير في ممارساتها. فهدفهم حينها لن يكون مجرد استجابة المنصة للمطالب أو انخفاض أرباحها لإثارة قلق المستثمرين، بل سيكون الضغط بهدف دفع المنصة إلى الحافة بكل ما تعنيه الكلمة، وسيستمر دون توقف إلى أن تخضع المنصة خضوعاً كاملاً، وتُقدم اعتذاراً علنياً مُذِلّاً، وتستقيل إدارتها، وتُباع أسهم النفوذ فيها بثمن بخس كي تكون مثالاً وعبرة لبقية المنصات.
وعلى الأرجح فإن منصة الفيسبوك ستكون هي المحظوظة بأن يقع الاختيار عليها لأسباب وجيهة، أولها أنها الأكثر إثارة لغضب المستخدمين بشكل مستمر ومتنامٍ، وثانيها أنها الأكبر والأكثر تجسيداً للعبرة، وللمفارقة فإن ذلك يجعلها الأسهل في التأثير عليها بالنظر إلى بنيتها وبنية الشركة المُشغِّلة لها. وثالثها حقيقة أنها الأقدم وأن أغلب الممارسات البغيضة التي تمارسها جميع المنصات بدأت من داخل مختبراتها، وإلى جانب الجشع، فقد كان استخدام الفيسبوك لها هو أحد العوامل الرئيسية التي دفعت بقية المنصات إلى تبني تلك الممارسات لتكون قادرة على البقاء في المنافسة.
إن مجرد الإعلان عن تحالف بين شخصيات ذات ثِقَلٍ وتوجيهه إنذاراً ومطالبة للمنصة بالاستجابة لمطالب المستخدمين كما لَخَّصناها في مقالة سابقة يدفعها لتخفيف حدة ممارساتها مؤقتاً من باب محاولة احتواء العاصفة حتى مرورها كما جرت العادة. وسيكون ذلك بداية لقلب التوازن ودفع المنصة إلى خانة الدفاع. ورغم أنه من الصعب التكهُّن بدقة بأساليب ممارسة الضغط إلا أنه يمكننا بشكل عام أن نتوقع بعضها.
ففي ظل صعوبة نجاح مقاطعة المستخدمين للمنصة نفسها سيتوجه التركيز إلى مقاطعة المُعلنين على المنصة من الأفراد والشركات وتحويل ذلك إلى وصمة عار تحاول الأغلبية تجنُّبها، ورغم أنه سيظل هناك داعمون للمنصة لأسباب معروفة إلا أن ذلك سيزيد من تأكيد تلك الوصمة وستكون النتيجة عموماً هي انخفاض أسعار وعائدات الإعلانات على المنصة بشكل كبير.
ومن المحتمل جداً أن يكون المحور الثاني للتركيز هو الملاحقة القضائية، فرغم أن الفيسبوك تستغل العديد من الثغرات في قوانين الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية لتغطية ممارساتها، إلا أنها بشكل مباشر وغير مباشر تنتهك عدداً من القوانين في 60 دولة أخرى على الأقل، وببعض الجهد فإن مجموعات متطوعة من المحامين والقانونيين في كل دولة يمكنها إيجاد التكييف القانوني المناسب لمقاضاة المنصة في كل دولة على حِدَى، وحسب نجاح كل مجموعة يمكن حينها أن تواجه المنصة مطالبات تتراوح إجمالاً بين مئات الملايين وعشرات المليارات من الدولارات على شكل غرامات وتعويضات. ورغم أنها قد تجد بعض المخارج القانونية وتتجنب جزءاً من هذه المطالبات، إلا أن مجرد مواجهتها لهذا السيل من الملاحقات القانونية والمطالبات الضخمة في فترة قصيرة، وحالة عدم اليقين بشأن القدر الذي سيمكنها تجنبه منها، سيكون لها الأثر المطلوب تماماً. وقد يتمدد الخيار هنا ليشمل بقية تطبيقات الشركة المشغلة للمنصة مثل إنستغرام كونها جميعاً تحت مظلة كيان اعتباري واحد.
وربما يتطور الأمر أيضاً إلى قيام مجموعة من المحامين بالمقاضاة الجنائية لإدارة المنصة كأفراد في المحكمة الجنائية الدولية لتواطئهم في جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة ضد الفلسطينيين وفي ميانمار ضد الروهينجا، أو على أقل تقدير مقاضاتهم بتهمة عرقلة سير العدالة وحجب الحقيقة بشأن ذلك.
وبالتأكيد، سنشاهد حينها وسائل إبداعية أخرى في الضغط، مثل الاحتجاج الإيجابي بالنقر على الإعلانات مع بقاء المقاطعة للمعلنين، ورغم أن ذلك سيرفع من مدخولات الفيسبوك في البداية، فإنه ما أن يشعر المعلنون بعد فترة قصيرة بعدم جدوى الإعلان الذي سترتفع كلفته حينها على المعلن قياساً بالعائد السلبي منه، فإن ذلك سيدفع بالمزيد من المعلنين للبحث عن خيارات أخرى. وقد نرى أيضاً هجرة جماعية عقابية منظمة لصُنَّاع المحتوى إلى منصات أخرى أقل استبداداً ولو بقليل، وربما نرى مزيداً من الإبداع في حملات التوعية والفضح للممارسات غير الأخلاقية للمنصة. وفي مقابل صعوبة الاستغناء عن الفيسبوك للكثيرين فسيكون من السهل عليهم نسبياً الاستغناء عن تطبيق الواتس آب المملوك من نفس المُشغِّل واستبداله بأحد الخيارات الأخرى المتعددة المتاحة، والتي يقدم بعضها حتى خدمات أفضل وأكثر أماناً. وبالتأكيد ستعود حملات خفض تصنيف التطبيقات وغيرها من الأفكار المبدعة، فجعبة الناس مليئة بالأفكار.
وإذا استمر هذا الضغط بالشكل المناسب حتى ترفع المنصة الراية البيضاء، فإن ذلك سيكون رسالة تصيب بقية المنصات في الصميم، وتهز الأرض تحت أقدامها، وتدفعها للإسراع مذعورةً لإعادة النظر في ممارساتها تجنباً لنفس المصير.
تُرى هل سيحدث كل ذلك فعلاً؟
يبقى الجواب هنا في علم الغيب مُعَلَّقاً على امتلاك بعض أولئك الإعلاميين والمؤثرين الجرأة الكافية للأخذ بزمام المبادرة بدلاً من الاكتفاء بالتذمر والشكوى، ومدى تشجيعنا نحن لهم على ذلك، وستخبرك الأيام بما كُنت عنه سائلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.