لعلك قد سمعت عن مدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا التي بدأتْها وزارة التربية والتعليم في مصر وأنشَأَتْ بعض كليات التربية برامج خاصة لإعداد معلمين لها. هذه المدارس مستوحاة من فكرة مدارس STEM وهو اختصار لScience "العلوم" وTechnology "التكنولوجيا" وEngineering "الهندسة" وMathematics "الرياضيات".
بدأت فكرة هذه المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية بداية من القرن الحادي والعشرين لتعد جيلاً أفضل في مجالات العلوم والرياضيات والتكنولوجيا. لكن بعد ما يقرب من عشر سنوات من عمل هذه المدارس، اكتشف الخبراء هناك أن الأمور لا تسير على ما يرام مع الطلاب؛ لأنهم فقدوا جزءًا مهمًا من دراستهم، ألا وهو دراسة علوم الإنسانيات. وفي خطوة تصحيحية، بدأت هذه المدارس ذاتها تدريس الإنسانيات من تاريخ وفنون وأدب وعلوم اجتماعية، وغيرت اسم المدارس من STEM إلى STEAM وحرف A الذي أضيف يمثل Arts أي الآداب، وهو مصطلح كبير يشمل علوم الإنسانيات. ويعتقد الخبراء أن المنهج التكاملي في تدريس العلوم والآداب يمد الطالب بالعلم والمعرفة ويهذب أحاسيسه بل ويساعده في حل المشكلات العلمية بطرق أكثر ابتكارًا كما يوفر له فرص عمل أكثر وأفضل.
اقتبست مصر فكرة هذه المدارس بداية من عام 2011 الذي بدأت فيه أول مدرسة من هذا النوع للبنين في المعادي، تلتها مدرسة للبنات في 6 أكتوبر قبل أن تنتشر في كل المحافظات. والغريب أن خبراء التعليم في مصر تغاضوا عن التغيير الذي لحق المدارس الأم في الولايات المتحدة وصمموا على إعادة اختراع العجلة بجعل هذه المدارس تركز فقط على العلوم وتتجاهل الإنسانيات، مع أن هذه المدارس بدأت في مصر بعد إجراء الخطوة التصحيحية في الولايات المتحدة.
سارت هذه الفلسفة جنبًا إلى جنب مع الدعاية المناهضة للإنسانيات والزعم بأن دراستها لا فائدة منها، فهل هذا صحيح؟ وبما أن العالم الغربي المتقدم هو البوصلة لدى من يزعمون عدم أهمية الإنسانيات، نجيب على السؤال من واقع هذا العالم.
ففي الولايات المتحدة، تشكل الإنسانيات جزءًا أساسيًّا من مناهج المدارس الثانوية في أغلب الولايات، وتعد مواد التاريخ والفلسفة والأدب مواد أساسية (أي مواد مجموع) تُضاف إليها لغات أجنبية يقوم على تدريسها غالبًا أبناء هذه اللغات علاوة على الفنون مثل الموسيقى والرسم. وفي أوروبا، رغم تنوع الأنظمة التعليمية بالدول الأوروبية، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعًا هو أنها تصنف مواد الإنسانيات مثل التاريخ والفلسفة والأدب واللغات على أنها مواد أساسية كذلك، بل وتصنف بعض الدول مثل فنلندا وفرنسا وألمانيا مواد الفنون مثل الموسيقى والرسم على أنها مواد مجموع وتُعقَد فيها الاختبارات ويُطلَب لاجتيازها تقديم المشروعات التي يُقَيَّم الطلاب عليها.
والسؤال الآن: إذا كانت كل هذه الدول المتقدمة تدرس الإنسانيات والفنون وتخصص لها ميزانيات ضخمة، فهل يصح لنا – نحن المتخلفون بحسب معايير الحضارة الغربية – أن نلغي هذه المواد من مناهج التعليم الثانوي؟ نحن نقلد الغرب في كل تافه لا قيمة له، فدعونا نقلده في النافع كذلك!
ونُذَكِّر هنا بأنَّ الدعوة لإلغاء أو إلغاء بعض مواد الإنسانيات إنما حدث ويحدث لأننا أسأنا تدريس هذه المواد فجعلناها قوالب من المحفوظات دون فائدة تُذْكَر من الحفظ ودون تحقيق الإفادة من هذه المواد في تحسين طرق التفكير والنقد وتربية وتهذيب الذائقة الأدبية والفنية.
وبالمناسبة، لا تعني قناعتي بضرورة تدريس الإنسانيات في المدارس الثانوية (وما قبلها، بطبيعة الحال) ضرورة تدريس هذه المواد في صورة أقسام بالجامعات؛ لأن الدراسة في الجامعة تخصص عميق وبداية مستقبل مهني يلزم له دراسة المواد التي تؤهل الطالب للحصول على وظيفة، مع عدم اعتراضي على تدريس الإنسانيات لطلبة التخصصات الطبية والهندسية والزراعية والقانونية وغيرها حتى يكون لدينا طبيب ومهندس وقانوني إنسانًا ذو خبرة بطبيعة البشر وخلافه.
وأخيرًا، أتمنى على السادة المسؤولين عن التعليم في مصر أن يسترشدوا بخبرات ذوي العلم والخبرة وتجارب الدول الناجحة في التعليم ممن بيننا وبينهم قواسم ثقافية مشتركة قبل إصدار قرارات فوقية تدفعنا للوراء أكثر وأكثر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.