في عام 1953، قدم صمويل بيكيت مسرحيته الشهيرة "في انتظار غودو"، التي أصبحت رمزاً للعبث واللامعنى في الأدب الحديث. تحكي المسرحية قصة شخصيتين، فلاديمير وإستراغون، اللذين يقضيان وقتهما في انتظار شخص يُدعى "غودو"، لكن غودو لا يأتي أبداً. في هذه المسرحية، يُقدم بيكيت رؤية قاسية ومظلمة عن الوجود الإنساني، حيث يتأرجح الأمل والعبث بين الانتظار واللاجدوى. وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على صدور المسرحية، إلا أن السؤال الذي تطرحه يظل قائماً في عالمنا المعاصر: هل ما زلنا ننتظر غودو؟
يُمكن القول إن "في انتظار غودو" ليست مجرد مسرحية تتناول العبثية، بل هي مرآة تعكس واقعاً نفسياً واجتماعياً يعيشه كثيرون حتى اليوم. فعلى الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، وعلى الرغم من ازدياد المعرفة وتعدد وسائل التواصل، إلا أن الإنسان ما زال عالقاً في دائرة الانتظار، يتطلع إلى الخلاص من قوى غير مرئية أو أمل زائف قد لا يتحقق أبداً.
في حياتنا اليومية، نرى هذا الانتظار يتجلى في أشكال مختلفة. ننتظر التغيير السياسي الذي يعدنا به الزعماء في كل مرة، لكن الواقع يبقى على حاله. ننتظر العدالة التي لا تأتي، في حين يستمر الظلم والقهر. ننتظر تحقيق الأحلام والأهداف، لكن الزمن يمضي دون أن يتحقق شيء يُذكر. هذا الانتظار، الذي يبدو بلا نهاية، يحاكي بشكل مؤلم ما عاشه فلاديمير وإستراغون على خشبة المسرح.
كما أن "غودو" الذي ينتظرانه قد يمثل أي شيء أو أي شخص نعلّق عليه آمالنا، سواء كان مخلصاً دينياً أو قائداً سياسياً أو حتى فكرة أو حركة قد تنقذنا من واقعنا. لكن، مثلما لا يظهر "غودو" أبداً في المسرحية، يبدو أن الحلول التي ننتظرها في حياتنا لا تأتي، أو أنها تأتي ناقصة، أو ربما نتساءل في النهاية إن كانت ستأتي أصلاً.
علاوة على ذلك، يعكس بيكيت في مسرحيته حالة الانفصال والانعزال التي يشعر بها الإنسان المعاصر. فعلى الرغم من وجود فلاديمير وإستراغون معاً، إلا أن حوارهما يعكس عجزهما عن التواصل الحقيقي. كلاهما يتحدث، لكن لا أحد يسمع الآخر حقاً. هذا يذكرنا بالعلاقات الاجتماعية الحالية، حيث يعيش الناس في مجتمعات مزدحمة، لكنهم يشعرون بالوحدة والانفصال عن بعضهم البعض. هذا الانفصال يعزز من حالة الانتظار، حيث يبدو أن الجميع يبحث عن شيء أو شخص يملأ الفراغ الداخلي، لكن لا أحد يستطيع تقديم الإجابة.
من ناحية أخرى، يمكن فهم "غودو" على أنه رمز للأمل والبحث عن المعنى في حياة تملؤها الفوضى والعبثية. في عالم مليء بالصراعات والكوارث والتغيرات السريعة، يصبح الإنسان في حالة انتظار دائم لشيء يُعيد إليه الإحساس بالاستقرار والمعنى. لكن كما في المسرحية، يظل هذا الانتظار عبثياً في كثير من الأحيان، حيث لا يتحقق الأمل المنتظر، أو أنه يتحقق بطريقة لا تلبي التوقعات.
إضافة إلى ذلك، تتجلى عبثية الانتظار في السياسة العالمية المعاصرة، حيث نرى شعوباً تنتظر السلام في مناطق النزاعات، وتنتظر التغيير في ظل أنظمة سياسية مستبدة، وتنتظر نهاية الفقر والبطالة في ظل سياسات اقتصادية غير عادلة. لكن الزمن يمر، والمشاكل تستمر دون حل واضح، مما يزيد من شعور الفرد بالعبث واللاجدوى.
في الختام، يمكن القول إن مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت لا تزال تعبر عن حالة إنسانية عميقة يعيشها الإنسان المعاصر. إنها تُجسد الانتظار الأبدي الذي يُبقي الإنسان في دائرة من اللايقين والتردد، حيث يتداخل الأمل مع العبث، والبحث عن المعنى مع الاعتراف بعدم جدواه. في عالمنا اليوم، نجد أنفسنا عالقين في انتظار "غودو" الخاص بنا، ننتظر حلولاً، وأجوبة، وخلاصاً قد لا يأتي أبداً. وما زال السؤال الذي طرحه بيكيت قائماً: إلى متى سنظل ننتظر غودو؟ وهل سنكتشف في النهاية أن انتظارنا لم يكن سوى جزء من عبثية وجودنا؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.