غادر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المنطقة في زيارة قادته إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي ومصر وقطر، دون تحقيق أي تقدم في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتبادل الأسرى بين تل أبيب وفصائل فلسطينية نشطة في القطاع، أبرزها حركة حماس، واللافت للانتباه في هذه الزيارة التي وصفها مراقبون بالفاشلة، أن بلينكن أعلن بعد لقائه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، أن الأخير وافق على مقترح الوسطاء، مُحمّلًا المسؤولية لحركة حماس في إفشال التفاوض، مكرراً ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي ألقى بالمسؤولية هو الآخر على عاتق حركة حماس، تلك التي أبدت مرونة واضحة خاصة فيما يتعلق بعدد الأسرى الفلسطينيين المطلوب إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية.
وما أنْ أدار بلينكن ظهره بعد تصريحه، حتى خرج نتنياهو وأدلى بتصريح ناري دحض خلاله كل مزاعم بلينكن بشأن موافقة الاحتلال على الصفقة، حيث أكد نتنياهو أن جيش الاحتلال لن ينسحب أبداً من محور فيلادلفيا الفاصل بين قطاع غزة ومصر، ومحور نتساريم الفاصل بين شمال القطاع وجنوبه تحت أي ظرف، ولن يستجيب للضغوط التي تُمارَس عليه في هذا الشأن، وهذا ما يُعيد المفاوضات إلى مربّعها الأول ونقطة الصفر، ويضعها في مرحلة حرجة قد تؤدي إلى انهيار المفاوضات بشكل كامل، لا سيما أن حماس تصر على انسحاب جيش الاحتلال من كامل قطاع غزة وفتح المعابر وإعادة الإعمار، وتلك هي خطوطها العريضة لإبرام الصفقة منذ بدء الوساطة القطرية المصرية في هذا الصدد.
إنّ تضارب التصريحات بين نتنياهو وبلينكن يقودنا إلى احتمالين اثنين لا ثالث لهما: الأول هو أن بلينكن يستخف جداً بعقول الوسطاء ويلعب على وتر السبق في الإعلان عن الموافقة على الصفقة، وذلك لتبرئة نتنياهو من إثم المماطلة وتخريب المفاوضات، ذلك الإثم الذي يلاحقه حتى ضمن الأوساط الإسرائيلية، حيث اتهمه زعيم المعارضة الإسرائيلية بتخريب المفاوضات والمماطلة لكسب الوقت، وباستثناء الوزراء المتطرفين في حكومة نتنياهو أمثال وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش، والأمن القومي إيتمار بن غفير، فإنك لن تجد إسرائيليًا واحدًا ضد إبرام الصفقة وبشكل عاجل وبالشروط التي تضعها المقاومة الفلسطينية، لأن وقف الحرب على غزة بات مطلباً إسرائيلياً قبل غيره، إلا أن إثم التعطيل والتسويف يلاحق نتنياهو أيضا في مظاهرات عائلات الأسرى التي فقدت الأمل من إنصات الحكومة لمطالبها وراحت مؤخرا تناشد الوسطاء في قطر ومصر للضغط من أجل إطلاق سراح ذويهم بعدما كانت تناشد بشكل مباشر الحكومة وأعضاء الكنيست الإسرائيلي وصُناع القرار.
أمّا الاحتمال الثاني وهو الأرجح، هو أن بلينكن لا يفقه كثيرًا في دهاليز المفاوضات المعقدة والملفات الشائكة، وليس لديه من الفطنة الكافية ما يُخوّله لمفاوضة حماس، ربما لأن واشنطن لم تعتد بعد، على مثل هذا النوع من "يباسة الرأس" لدى المفاوض الفلسطيني، ولهذا كانت زيارة بلينكن مجرد وسيلة للفت الانتباه ليس إلّا، خاصة أنها الزيارة الثامنة له إلى المنطقة دون أن تجدي نفعاً، وما نجحت الهدنة الأولى التي استمرت أسبوعاً فقط حتى مطلع ديسمبر الماضي، إلا لأنها كانت مؤقتة أراد الاحتلال من خلالها جسّ النبض بشأن أسراه في غزة، واختبار جديّة حماس، بعكس ما يجري حالياً بشأن وقف إطلاق النار بشكل دائم، وهذا ما أكدت عليه صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية مساء الأربعاء، عندما نقلت عن مصادر إسرائيلية سَمّتها بالمطلعة على ملف المفاوضات، قولها إن بلينكن أصدر حكم الإعدام على المفاوضات حينما أعلن عن موافقة نتنياهو على المقترح، وهذا يدل على السذاجة وسوء الفهم، حسب قول المصادر التي اتهمته بتخريب المفاوضات بشكل خطير طبقًا لاعتبارات أمريكية داخلية، ما أدى إلى فشل كل جولاته للمنطقة والتي لم تفلح بوقف رصاصة واحدة فقط داخل قطاع غزة، بل كانت بمثابة ضوء أخضر أمريكي لارتكاب مزيد من المجازر وحملات الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والتي تعتبر واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.
ما لفت الانتباه أيضاً في زيارة بلينكن لقطر، أن أمير البلاد تميم بن حمد آل ثاني لم يلتقِ به كما جرت العادة في جولات سابقة، ولم يلتقِ به أيضًا رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن الذي كان في جولة خارجية قادته إلى أستراليا ونيوزيلندا، رغم علمه المسبق بزيارة الوزير الأمريكي للمنطقة، بينما التقى بلينكن بوزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية محمد بن عبد العزيز الخليفي، في إشارة واضحة ومقصودة ربما، إلى عدم جدوى تلك الزيارة التي أعقبها اتصالان هاتفيان من بلينكن مع أمير قطر ووزير خارجيته لمناقشة السبب ذاته الذي حلّ بلينكن من أجله ضيفاً في الدوحة، لكنه لم يَحْظَ بِبروتوكول يليق بحجم وزير خارجية الولايات المتحدة.
كل ما سبق يشير إلى قرب انهيار المفاوضات ما لم تلعب واشنطن دوراً نزيهاً في وساطتها، فالوسيط لا يمكن أن يكون منحازاً لطرف ما، وأمام الولايات المتحدة خيار الوساطة وخيار الانحياز للاحتلال وهو الخيار الذي تنتهجه على ضوء صفقات الأسلحة بمليارات الدولارات لصالح تل أبيب، وإيفاد ترسانات الأسلحة إلى المنطقة لمواجهة تهديدات إيران، حيث أفادت تقارير دولية أن طهران ربما ترجئ الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية حال التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ولكنْ ومع مغادرة بلينكن للمنطقة تعود التوترات من جديد، في ظل أن إيران مطالبة بالرد على الاغتيال كي تحفظ ماء وجهها، وإلّا فإنّ الاحتلال لن يتردد قيد أنملة في معاودة الكرّة مرة ومرات، فالكل يعلم يقيناً أنه لا يحترم اتفاقيات ولا سيادة دول، ولا حلفاء بل يتصرف بفوقية وكأنه فوق القانون، ولم يكن ذلك ليحدث لولا التقصير العربي والإسلامي الذي لم ينجح في إنقاذ روح واحدة في غزة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.