الحكاية موروث شعبي أصيل، وخلاصةَ ما مكث في الذاكرة الإنسانية، بعد غربلةٍ، وسبرٍ طويل، وهي لم ولن تُروى بالطريقة ذاتها، إذ إن مادتها الأحداث التاريخية أو الأساطير والتخيلات الشعبية، ومصدر تجدّدها وانتعاشها؛ رد فعل الجمهور ومزاجه، فالجمهور مشارك يصياغة الحكاية بشكل أو بآخر، وكانت الحكاية الشعبية من أبرز الوسائل لإيصال أفكار معينة فيها الفائدة والتسلية، فاعتادت المقاهي، ومنذ القدم، وجودها الدائم ممثلة بـ"الحكواتي" أو "الراوي"، وهذا التقليد أصبح، مع مرور الوقت أساسياً، ولا يمكن الاستغناء عنه، يقابله في البيوت لقاءات النُّسوة، وحكايات الجدّات، وكِبار السن.
زمن الحكاية
اعتاد الإنسان سرد الحكاية منذ القدم؛ إذ كانت القصص تروى على ضوء نار السمر قبل الكتابة والرسم، وقبل التلفاز الذي ينقل القصة مصوّرة، وانتشرت ممارسة رواية القصص وسردها في كل أنحاء العالم، بما في ذلك القبائل النائية. ولقد استكشف باحثون من جامعة كوليدج لندن أثر سرد القصص على السلوك التعاوني لمجموعة من الصيادين في قبيلة فلبينية تسمى "أغتا"، فالباحثون جمعوا قصصاً من مجتمع أغتا المحلي في بالانان بــ"الفلبين"، وطلبوا من ثلاثة شيوخ إخبارهم بالقصص التي يروونها عادة للأطفال؛ وبالفعل حكى الشيوخ أربع قصص على مدى ثلاث ليال، واِستنتج الباحثون أن القصص التي رووها تؤدي دورًا كبيرًا في تشكيل هوية المجتمع، وتشكل نهاياتها التي تعكس التوفيق بين المصالح العامة، والاختلافات الفردية، فرصة لتعزيز التعاون في مخيمات الصيادين، ومجموعاتهم.
ولا حدود للحكاية الشفوية، ولا نهاية لها، وفي بعض الأحيان لا بداية أيضاً، فهي باقية تتمدد حول الرواة، وإن جانبا الزمان والتاريخ يُحددان الكثير من بُنى الحكاية، وكثيراً ما تتداخل الحكايات مع بعض، وينتقل جزء من حكاية ما إلى حكاية أخرى، ويكون ضمن بُنيتها، وهذا هو ما يجعل كل بلد يدّعي بأن هذه الحكاية من ميراثه القديم. وربما من قراءة بسيطة، نفهم كيف تشابهت حكايات السندباد في بعض رحلاته مع حكاية الملك سيف بن ذي يزن. وإن تشابه الحكايات الشعبية، وتداخلها يرجعنا إلى البحث عن الراوي، وثقافته، ومرجعياته الفكرية، فالنص الشعبي هو مجرد جسم ذي علاقة بالتراث الخاص بالمجتمع الذي ينتمي إليه، والراوي هنا هو الذي يكسوه، ويزينه بزخارفه، ويجعله حياً بالطريقة التي يقدمها بها، ويجذب الانتباه إليه، بالهيئة التي يعرضه عليها، ويزيد تأثيره بانفعاله، وتفاعله معه.
الحكاية في الموروث العربي
زخر التراثُ الشعبي العربي بحكايات، وقصص، عكسَتِ المُخيلة العربية، ومدى ما تحتويه من أساطير، ولما كان هذا التراث هو حال الشعب، فإننا نستطيع أن نتلمَّس فيه صورةً لواقعِ العرب الاجتماعي والثقافي والديني، وقد كانت المُشافَهة أو الرواية الشفهية أولَ ما عَرَف العربُ من طُرُق تدوين القصص والحكايات إلى أن جُمِعتْ، ودُوِّنتْ. وقد تناولت قصصُ التراث الشعبي عدةَ موضوعات؛ فمن قصص بداية الخلق وحضارة الإنسان الأولى، إلى حكايات الجان، والوحوش، وتحويل الأبطال إلى حيوانات وجماد، وبعض المعتقدات الاجتماعية عن الحسد، وقراءة الفنجان، وتصوير واقع المرأة كزوجة أو جارية أو بَطلة. وتُعَدُّ دراسةُ شوقي عبد الحكيم "الحكايات الشعبية العربية"، من أهم الدراسات التي تتناول هذا الجانبَ من الفولكلور؛ لما له من باعٍ طويلٍ في هذا المجال. وقد زخر التراث العربي بالكثير من القصص والحكايات المليئة بالحكمة والعِبرة، وأحيانا الفكاهة، والتي أصبحت موروثاً ثقافياً في بعض بلداننا العربية، رغم اختلاف الزمن، وتطور نمط الحياة.
وقد ساهمت البيئة الصحراوية لدى مجتمعاتنا العربية في توسع المخيال الشعبي، وتفتق الروايات، إذ كانت تعبر عن حالة اجتماعية ومعيشية مرت بها من جهة، وعن علاقة ترابطية بين البداوة والتحضر من جهة ثانية، وجرى الانتقال من النزعة الشفاهية إلى النزعة الكتابية، نظراً لأشكال التحول من بنية القبيلة إلى بنية الدول، ومن مجتمع الصحراء إلى مجتمع المدينة. فتناقل القصص ونسجها من وحي الخيال لدى البدو الرحل، ورسم شخصيات أسطورية خرافية، ساهمت الصحراء في بلورة سِماتها، وتناقلها من جيل إلى جيل آخر، وعملية نقل الموروث، وإيصاله إلى الأجيال اللاحقة، يكتسي أهمية بالغة سواء داخل الأسرة أو القبيلة وصولاً للمدينة التي لم تخلُ هي كذلك من هذه المظاهر، فقد كانت تعقد جلسات السمر، وحلق المداحين للاستماع للجديد من هذه الحكايات.
إن الثقافة والقيم العربية، نجدها حاضرة في جوهر الحكاية، فهي استجابة سيكولوجية لرغبات كل جيل، وانعكاس للقيم الروحية والأخلاق الأصيلة، وخاصة للطبقات الفلّاحية والرعوية، والتي كان ينزع أهلها إلى النسيان، ومحاربة التجديد، وتقديس الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. كما كانت تزيد في لحمة الترابط بين أفراد المجتمع، وتُساهم في نشر الفضيلة والخير، وقد زادت أهمية هذا المرويات الشعبية، مع السيطرة الاستعمارية الغربية على عالمنا العربي، باعتبارها دعاية ضمنية لمقاومة الوافد، والتصدي لهيمنته الثقافية، هذه الثقافة التي حاول الاستعمار غرسها، وترويجها بهدف طمس الهوية المحلية، والتي كانت نابعة بدورها من معتقدات وميثولوجيات غربية، فالحركات الاجتماعية التي شهدتها أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت مصحوبة بثوران ميثولوجي عجيب، يرمي إلى إخضاع الشعوب لسيطرة قوى غامضة، وانعكست تلك التصورات والأساطير "الميثولوجية" في سير الحملات الصليبية في العصور الوسطى.
الحكاية الشعبية السورية
مرَّت الحكاية السورية بأكثر من تحوّل، إذ عكست التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، والتصورات الأسطورية التي مرت بها بلاد الشام والمنطقة العربية في مضمون النص واهتمام الرواة، وارتبطت بالأساطير والحكايات التي تحمل رموزاً دينية، وعبرت عن قيم المجتمع السوري، وتجاربه، وكانت القصص تُروى في الأسواق، والمجالس العائلية، وهي تمزج بين الخيال والواقع، لتقديم دروس أخلاقية وتعليمية، تمجد الأبطال والمعارك "التاريخ البطولي"، والمآثر والقيم البدوية العربية والإسلامية. فكانت القصة جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية للمجتمع السوري، وظلت حكايات الحوريات، والجان، والعمالقة، ترتبط بالترهيب والترغيب للمجتمع، فضلاً عن الوعظ الديني من خلال سرد قصص الأنبياء والأولياء والصالحين.
الحكواتي .. قصة بذاته
برز شخص الحكواتي كجزء من التراث العربي والسوري القديم، وذاع صيته في القرن التاسع عشر الميلادي، وكان الناس يقصدون المقاهي التي تستضيف الحكواتي بلهفة للاستماع لهم، ومن أبرز القصص والسير التي كان يرويها في تلك الفترة "الظاهر بيبرس وعنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي وصفوان ابن البهلوان ومعد يكرب الزبيدي" وغير ذلك، وكانت تعتبر تلك السهرات بمثابة وسيلة ترفيهية، وتثقيفية، وتوجيهية تحض على الأخلاق، ونصرة المظلوم، ويعمد خلالها الحكواتي إلى الحركة، والتلاعب بالمفردات والألفاظ، بحيث تبقى حواس الحضور جميعهم، متعلقة بما سيقوله من جملة خلف الأخرى؛ وكان يعمد إلى إنهاء حديث سهرة الليلة، بموقف محرج وحبكة مثيرة. ولشدة تأثر بعض الحضور بسيرة القصة كان ثمة من يتبعه خارج المقهى، طالباً منه كشف بعض التفاصيل عن مصير أبطال قصصه، لكن الحكواتي كان يرفض كشف أسرار قصته قبل حلول موعدها.
ويكتب قتيبة الشهابي في "دمشق… تاريخ وصور": إن الحكواتي في النوفرة "كان لأكثر من قرنين يروي قصة بطولاتنا الغابرة، حين يضرب عنترة بن شداد بسيفه أربعين رأساً إلى اليمين، ومثلها إلى اليسار، كما كانت القيامة تقوم إذا أنهى الحكواتي كلامه، وابن شداد في السجن، وكم من رجل قرع باب الحكواتي في منتصف الليل، مُطالباً إياه بتحرير البطل، وفك أسره، قبل طلوع النهار وإلا، فيضطر المسكين إلى متابعة القراءة، حتى يطلق سراح عنترة.
ولم يكن بمقدور أي شخص القيام بمهام الحكواتي، حيث يتطلب بمن يقوم بهذا الدور أن تكون له مواصفات خاصة في الحضور الذهني، والثقافة، والعلم، والشكل، واللباس، والفطنة، والحفظ، وإلقاء الشعر، وجذب المتلقين لحديثه. واشتهر من حكواتية سورية في المقاهي الشعبية: في دمشق أبو الشامات، وأبو سعيد، والحكواتي الحلبي أبو خليل، ويعد الحكواتي "غزوان بوسطه جي" أحد القلائل الذين ما زالوا متمسكين بمهنة الحكواتي، والذي يقول في لقاء معه بحي الجابرية عام 2022م: "أنا من عائلة حلبية عريقة من "حي الكلاسة المغاير"، وجدي "الحاج أحمد بوسطه جي"، وكان شاعراً مشهوراً، وناظماً للموال، وكان عنده مضافة أشبه ما تكون بالصالون الأدبي في هذا الزمان، وكان يجتمع فيها "كبارية" الحي بسهرات حتى منتصف الليل، فهذا يقول الحكاية، وذاك يقول الشعر، وآخر يروي الطرفة، وكان لكل واحد من الحاضرين بالسهرة دور، بما يمتلكه من مهارة، وكذلك والدي "الحاج يوسف" سار على نهج أبيه، وتقمص وحفظ عنه الكثير من الموروثات الشعبية بكل تفاصيلها، كل تلك الأحداث كنت حاضراً عليها، وأنا طفلٌ صغير، وكان دوري ينحصر بتقديم الضيافة من الشاي والقهوة، وسماع وحفظ الحكايات والأمثال والأشعار".
ورغم التطور الرقمي والحداثي، وتقلص دور الحكواتي في المقاهي، مع دخول التلفاز إلى المنازل، وبث مسلسلات عربية وبدوية ومصرية، بالسهرات الرمضانية، ولكن لا تزال شخصية الحكواتي لها منزلتها، وإلى فترة قريبة، كانت مقاهي النوفرة والقاهرة، ومقهى خبيني في سوق القباقبية في دمشق، ومقاهي مدينية شعبية أخرى مكاناً للحكواتي يسرد قصته على الجمهور بكل متعة، وتشويق، ومرح.
الواقعية في الحكاية السُّورية
تغيرت طبيعة الحكاية والقصة السورية في مضامينها، واهتمامها في الوقت الحاضر، وأطلق مسرح البلد في عَمان الأردنية، مشروع كتاب "حكايتنا حكاية.. حكايات تراثية" باللغتين العربية والإنجليزية، رواها لاجئون سوريون في لبنان والأردن، وهي حكايات من النوع الواقعي الذي يجمع بين الإثارة، والأسى، والإلهام الشعبي، عبر تدوين ثقافة المهجر، وذاكرته، وطُبع الكتاب في 261 صفحة ضمن مشروع "الحكواتي" بدعم مؤسسة "تراث حضاري بلا حدود" السويدية، وبالتعاون مع شبكة "حكايا" ممثلة بالملتقى التربوي العربي في الأردن، ومركز المعلومات العربي للفنون الشعبية "الجنى" في لبنان، والشراكة مع مؤسسة "فابيولا" للحكي في السويد.
وفي الكتاب جمع ستة باحثين لبنانيين وسوريين نحو 250 حكاية من أصحابها، لم يترددوا في سرد القصص أمام الكاميرا، لضمان استمرار حضورها في أذهان الشعب السوري وشعوب العالم، وجاءت الحكايات باللهجة الشامية، ولتعكس جوانب الحياة التي عاشوها، ولتتحول تلك القصص إلى مصدر إلهام، وانعكاس حقيقي لتجارب يتداخل فيها الألم والأمل، وحب الحياة، وكره الحرب، ولتصبح كل القصص والحكايات العربية والسورية واقعية، ولترسم حقبة جديدة في الشفاهي والمكتوب رسمه واقعهم ومعاناتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.