بعد مرور أكثر من 300 يوم على معركة "طوفان الأقصى" التي صدمت العالم أجمع ودفعت الأسطول الأمريكي للتحرك في المنطقة، ظهرت إسرائيل في صورة لم يكن يتوقعها أحد أن تظهر. فلم يكن أحد يتصور أن يرى الجندي الإسرائيلي، الذي طالما وُصف بأنه "لا يقهر"، مقهورًا، في حالة ضعف وهزيمة. لقد كانت الساعات الأولى بالغة الثقل على صُنَّاع القرار في إسرائيل وحلفائها. بعد ذلك، اتخذت إسرائيل قرارها بدعم من دول مختلفة من العالم ونادت بالقضاء على حماس، دون وضع أي خطوط حمراء. وفي ظل تساؤلات البعض عن المسؤولية عما حدث، وتحميل المقاومة وزر هذه المحرقة، أود في هذا المقال أن أستعرض بعض النقاط الأساسية التي يجب أن تكون حاضرة أمام كل متابع:
أولاً: إن مقاومة المحتل تُعد عملاً مشروعًا لا تُلام عليه أيَّة قوة تسعى إلى تحرير أرضها وأسراها، وهذا ليس رأياً شخصياً مني، بل هي قاعدة ثابتة لا يختلف عليها لا قانونٌ قيميٌ ولا دينيٌ ولا دولي.
ثانياً: في السابع من أكتوبر، كانت المقاومة ترى أنها أمام معركة نظيفة وفق مفاهيم الشرع الإسلامي، حيث استهدفت فقط الجنود والمواقع العسكرية، وكانت توجيهات قائد القسام محمد الضيف واضحة، "لا تقتلوا شيخًا ولا طفلًا ولا تهدموا صومعة". ورأى العالم هذه الرؤية والتوجيهات النبيلة للمعركة تتحقق على أرض الواقع في مشاهد بُثَّت حول العالم. هذه العملية، التي عجز الخبراء العسكريون عن فهمها وشكلت حالة إعجاز سيقف التاريخ والعلم العسكري أمامها كثيرًا. كان هدف تلك العملية الأساسي هو القضاء على قوة غاشمة كانت قد حاصرت شعبًا لسنوات طويلة، محتلة أراضيه ومقدساته وحرمانه من كل مقومات العيش الكريم، تاركةً إياه في أكبر سجن عسكري في العالم. ولفهم أحد أسرار هذا الإعجاز فإنه يجب النظر مبدئيًا إلى تنظيم القوات الإسرائيلية، فهي مقسمة إلى ثلاث فرق مناطقية دفاعية:
الفرقة الشمالية: تغطي حدود إسرائيل الشمالية، بما في ذلك الحدود مع لبنان وسوريا.
فرقة الوسط: تغطي الضفة الغربية، القدس، وكامل الحدود مع الأردن ومصر، باستثناء المنطقة القريبة من قطاع غزة.
فرقة غزة: تغطي حدود قطاع غزة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار التكافؤ بين هذه الفرق من حيث العدد والعتاد، فهذا يعطي قراءة لخريطة التهديدات المتوقعة؛ حيث تشكل حدود قطاع غزة فرقة أو منطقة واحدة، في حين تغطي فرقة أخرى كامل حدود مصر والأردن. ثم تأتي حركة مقاومة بعتاد محدود جدًا لا يُذكر مقارنةً بعتاد الجيوش، فتستطيع تحييد فرقة غزة أو قيادة المنطقة الجنوبية واختراق مواقعها العسكرية والسيطرة على مقر الفرقة. وقد تمكنت حركة المقاومة من تحقيق ذلك على الرغم من الحماية التي كانت تلك الفرقة الإسرائيلية تحصن بها نفسها، باستخدام أحدث أنواع الجدران الحديثة والدروع المركبة.
وهكذا، استيقظت إسرائيل وحلفاؤها على واقع خطر وجودي، و لو أن الجبهة الشمالية قد تحركت بشكل متزامن ومنسق مع غزة، لكان من الممكن تدمير فرقتين من أصل ثلاث فرق دفاعية، ولك أن تتخيل مشهد إسرائيل حينها.
ثالثاً: كان المتوقع أن تقابل إسرائيل هذه المعركة التي كُسِر فيها أنفها بنفس قواعد الاشتباك وبنفس الخطوط الحمراء، لتعيد الاعتبار لنفسها من خلال معركة عسكرية قواعدها وخطوطها معروفة. ولكن الأمر كان مختلفًا، حيث شنت حرب إبادة شاملة بكل عنجهية وتكبر، حتى أنها قتلت مستوطنيها مع المسلحين الفلسطينيين، ثم خرج وزير الدفاع الإسرائيلي وقال: لا دواء ولا ماء ولا غذاء، مستهدفًا ليس المقاتلين فقط، بل أيضًا حوالي مليوني مدني يعيشون في قطاع غزة. وهكذا بدأت إسرائيل المجزرة التي لم يُرَ مثلها في التاريخ الحديث أو المصور، فقد استباحت دماء الأطفال والنساء والمدنيين ببشاعة هزت قلب كل إنسان حر، حتى قيل إنه لم يتبقَ في سجل جرائم إسرائيل إلا استخدام السلاح النووي.
رابعاً: وبالتالي، نحن أمام مقارنة بين قوة مقاومة نفذت عملية عسكرية ببراعة منقطعة النظير و محافظة على أخلاقيات الحرب واحترام حقوق الإنسان والأسير، وذلك على الرغم من تعرض أهلها للظلم لسنوات طويلة لمجزرة تلو المجزرة، بمعنى أن دافع الثأر والمعاملة بالمثل كان ممكنًا، لكن المقاومة رفضت ذلك. في المقابل، نجد دولة احتلال تقوم بمجزرة وإبادة جماعية ومحرقة للأطفال والنساء، مستمرة في انتهاك لكل كل المبادئ الإنسانية، بما في ذلك حقوق الحيوان، مستخدمة سياسة الأرض المحروقة، ظنا منها أنها ستسترد هيبتها المسلوبة، أو تحقق لها صورة نصر وردع استراتيجي على أشلاء الأبرياء من الأطفال والنساء. هذه المقارنة التي يجب أن تكون حاضرة أمام المنصفين في هذا العالم، فهذه هي السردية الحقيقة التي ينبغي أن يتبناها العالم إذا ما كان يسعى بحق للحق والعدل. لذلك السؤال المهم هو: إذا كان هذا هو سلوك إسرائيل ومنهجيتها في القتال، فمن كان يضمن أو سيضمن أنها لن ترتكب المجازر في أي وقت شاءت و تحت أي مبرر تختلقه؟ ولربما أن يأتي ذلك بعد هذه القوة المظهرة من المقاومة أفضل من أن تأتي هذه المجزرة من غير هذه النقطة من القوة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.