في مصر، باتت المدن القديمة أماكن جهنمية، ومع تزايد مشاكل التلوث والفقر والاكتظاظ السكاني، أخذت الدولة القرار الأسهل والهروب مع الأغنياء إلى الأطراف. بالتالي أصبح الساحل الشمالي للبلاد مختبراً أنثروبولوجياً مدهشاً. فهناك يعاد تدوير وتكديس وتحويل كل شيء، ثم يُقدَّم بشكل جديد، حتى ما يخص الفقراء، من ثقافة نضال وسعي للعدالة يعاد تدويره ليصبح سلعة تناسب ذوق المترفين.
ففي حفل باذخ الثراء في ملهى بمدينة العلمين الجديدة تابع لمنتجع Silver Sands الفاخر في مصر، يتحدث رواده العربية برداءة بينما يُفصح لسانهم بالإنجليزية، متفاخرين بتعليمهم الأجنبي الذي يحدد موقعهم الاجتماعي في دولة يعيش أغلب شعبها تحت خط الفقر، تتصاعد نغمات غريبة، لأغنية كلماتها مألوفة لكثير من المهمشين، لتتشكل مفارقة حادة مع المحيط ربما لم يدركها المستمعون في الحفل، إذ كانت الأغنية يومًا ما صوتًا للثوار والفقراء، بينما تُغنى الآن لجمهور ربما لا يحمل هم معانيها.
هناك، وسط هذا المشهد الباذخ، لا ترى سوى أجساد متوهجة بالحماسة والنشوة، تتمايل على أنغام أغنية تحمل في كلماتها انحيازًا واضحًا للثوار والفقراء. لكن المفارقة القاسية تكمن في أنها تُغنى اليوم على أرض مجرفة، لم تُجرد فقط من زرعها، بل من فقرائها أيضًا؛ من الفلاحين والطلبة والعمال، لصالح سجن كبير من البذخ المصطنع، يزدان بالقصور الفاخرة التي كانت تمثل كل ما كان يرفضه الشيخ إمام، رمزًا للفخامة الزائفة التي تعلو فوق معاناة البسطاء، وتتجاهل جذور الأرض وأهلها.
"شيد قصورك"، تلك الأغنية التي كانت تُغنى في ميادين العواصم العربية ومقاهيها، وتصدح بها حناجر جماهير نزلت بصدور عارية لمواجهة الظلم الاجتماعي والاستبداد. كانت رمزًا للثورة والعزم، وصوت المهمشين، اليوم، في عالم يتسم بالسيولة والانفصال عن الجذور، نجدها تُغنى في مجتمعات ومنتجعات مسورة، بعيدة عن الفقراء الذين غنى لهم الشيخ إمام وصديقه أحمد فؤاد نجم، والذي ما كان ليتعرف على فنهم أصحاب هذه المدن المسورة، إلا بعد أن أعاد توزيع هذه الأغنية شاب سوري يُدعى أمين، فر من سوريا ضمن ملايين بعد هزيمة الثورة هربًا من بطش النظام الذي سجنه سابقاً، وأسس فرقة في منفاه ألمانيا تُدعى "شكون"، تمزج بين الموسيقى الغربية والألحان الثورية العربية، ليخلق وصالًا فنيًا وشعريًا ربما يعبر عن ألمه، على أمل أن تصل أصداء تلك النضالات إلى أبعد من حدود أوطاننا المتألمة، وتستمر في حمل رسالتها.
كانت أغاني الشيخ إمام صوتًا للمهمشين، ورمزًا للمقاومة في وجه الاستعمار والإمبريالية، فقد كان إمام يشدو بذكر جيفارا وهوشي منه كرموز للنضال المشترك ضد الظلم الإمبريالي، لكن أغانيه اليوم تصطدم أمام سيولة عالمنا، لتكون ضيف حفل غنائي راقص للأغنياء، بينما يكابد باقي الشعب وطأة الفقر والقمع، و الإمبراطورية الرأسمالية تشن حرب إبادة على الفلسطينيين في الجوار. لكن يبدو أن الزمن قد غير الكثير، فالأغاني التي كانت تُرفع كرايات ضد الإمبريالية، صارت اليوم مجرد ديكور للمتعة والابتهاج في حفلات الأغنياء، متماهية في الإطار الفني الذي ترسمه أنظمتنا الحديثة، التي لا تناهض الاستعمار ، بل تدفعنا إلى التداخل والتماهي مع مهمة نشر الحضارة كما يراها المستعمر.
ختامًا، لا أعتقد أنه هناك جديد في القول بأن قطاعًا كبيرًا من المشهد المجتمعي والفنّي في العالم العربي يعتاش بشكل مباشر وغير مباشر على أنماط غابرة ومعاصرة من التبعية الكولونيالية لدولٍ ومؤسسات تقوم نيابة عن الفاعلين المحليين بتحديد أولويات أفكارهم والعمل الثقافي والتي تأتي في غالبها كصدىً متأخر للسياسات الثقافية الأوروبية المتعلقة بدعم التنوع الثقافي لاحتواء الآخر في أوروبا نفسها.
إن ما يدعو للتأمل حقًا هو تصور وشعور ساكني هذه المدن والمجتمعات المسورة بأنها تقدمية وليبرالية إجمالاً، في بلد جنوبي متخلف، فهم الطبقة البرجوازية في المجتمع التي تعتبر نفسها "أخلاقية" و"منفتحة"، وما هي في الحقيقة إلا طبقة فردانية أنانية قصيرة النظر، تخلط بين الانبهار بالغرب وبين الثقافة السطحية، ليبراليتها رديئة بنت قرونٍ مضت.
تكمن المشكلة أن هؤلاء الأفراد، بطبيعة الحال، ربما سيصلون إلى مناصب في مؤسسات خارج البلاد وداخلها، وربما سيمسكون بمواقع قيادية لأن العالم الذي تلجمه الرأسمالية، يحتاج للمصرفيين ورواد أعمال ومسوقين يجيدون الإنجليزية وبعض التقنيات التي تُعلم في مدارسهم الأجنبية. والخطورة هنا، تكمن في استيعابهم الثقافي الساذج، وشوفينيتهم اللاواعية، وإيمانهم الساذج إلى حد ما، الذي يتقاسمونه مع البرجوازيين الأوروبيين، بتفوق الغرب المطلق. إلى جانب اعتقادهم بأن نمط التطور الذي حدث في أوروبا هو التطور الوحيد الممكن، والوحيد المرغوب فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.