عن أزمتنا الحضارية في ظل الهيمنة الغربية

تم النشر: 2024/08/19 الساعة 09:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/08/19 الساعة 09:13 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

الوعكات الحضارية متتالية في منطقتنا العربية والإسلامية، ولا من طبيب جراح قادر على استئصال الأورام السرطانية التي تمكنت من جسم مؤسسات الدولة والمجتمع فيها. ربما نتساءل دوماً عن ما هي الخطوات بعددها وكيفيتها لكي نصبح ندا للند لمشاريع حضارية في مواقع أخرى من الأرض، في واقع مأزوم ويعاني من الهيمنة الشديدة، يفعل آليات الاستلابات بكل معانيها المادية والرمزية، فيغتال كل عقل و كينونة.

كل الأشياء والعوالم فقدت براءة تأملاتها وتأصيلها، لم يعد التميز سمة العملات القيمية الجيدة، بفعل استنساخ الرداءات التي طبعت حياة الإنسان العربي / المسلم على أكثر من صعيد، فالرشاد وأساليب اللياقة الذهنية ذهبا إلى حال سبيلهما في غياب تكريس المعقول العقلي على مستوى المؤسسات وصولاً إلى الذات، فضاقت الدروب بمن يحاول أن يبعث بكل ذرة تأمل وتعقل.

إن بؤس السياسة والأيديولوجيا التي نعيشها، نتاج لعمليات تدوير إنتاج مسلسل الانهزام واستمرارية التخلف التاريخي والحضاري والذي يأتي ربما من فرط جهل المنطقة العربية والإسلامية لمقوماتها وقدراتها وإمكانياتها الثقافية والفلسفية والفكرية والمادية والحضارية، التي يقر بها العالم قبلنا.  

أتساءل، هل فعلا نعيش استحماراً حضارياً كما أشار علي شريعتي لكل مشروع يعمل جاهدا على الإبقاء متسلطاً، جاثماً على صدور المغلوبين، والتسليم به باعتباره طواعية نفسية واجتماعية وثقافية لمن قبل به؟  

على العرب والمسلمين تأمل واقعهم، فرادى وجماعات، كي يقفوا على حقائق مراكزهم ومواقعهم بالداخل كحكام ومحكومين، في عمليات تدبير الشأن العام وفق القواعد الديمقراطية، وآليات العدالة الاجتماعية والحكامة الجيدة، وعلاقاتهم بمعطيات ومراكز الخارج الأممية والحضارية، لينفضوا الغبار عن فهوماتهم المغلوطة على واقعهم الخاص والعام على السواء، و يتخلصوا من التكلس الذي لازمهم طوال قرون عديدة، لكسب معاركهم على كل الجبهات ولو أنها باهظة التكاليف والتضحيات الجسام.

فلن تتوقف النكسات والهزائم والتراجع، دون مشروع حضاري يحسم المعركة لصالحنا، ولا سيما في ظل استقواء وهيمنة إمبراطورية متجذرة تجد العالم عصياً على القسمة، تفتح جبهات الصراع على أكثر من صعيد، علمياً، ثقافياً، أيديولوجياً، عسكرياً، تقنياً، اقتصادياً، سياسياً، ودبلوماسياً. لا سبيل غير نهضتنا الحضارية، فلا يمكن الاستسلام و لا إضفاء العقلانية على ما هو ليس عقلاني، فالاستسلام  و الانهزام الحضاري والثقافي، ليس عقلانية ولا حل لواقعنا. 

يسعى واقعنا لتكريس الهزيمة نفسياً وثقافياً وحضارياً، فهل الاستسلام له حل؟! فإذا لم يتفاعل الإنسان مع ما هو آلي / ميكانيكي في عموم مشتغلاته وسلوكياته اليومية، في كثير من حقول الحياة العملية العادية، فكيف به أن يتفاعل مع ما يتطلب التأمل وبعد النظر والتبصر والنقد والتنظيم المحكم، فإنه لا محالة سينهج مسارات لا علاقة لها بما هو معهود في الإنسان من فاعلية وإبداع واجتهاد ومبادرة، ولا يمكنه أن يعرف في حياته نقلة نوعية تطورية بشكل إبستمولوجي، لذلك، لابد أن المعطى التربوي والثقافي والاجتماعي كمحددات للتفاعلات الممكنة هي أساس الأرضية لما يحصل في الواقع الاجتماعي العربي/ الإسلامي عموماً، سواء بشكل إيجابي أو بشكل سلبي، وما دام واقعنا معطوب في العديد من مجالاته، فمرد ذلك إلى ما يشكل الأرضية التي ننطلق منها، لتتجلى الأعطاب تباعاً في واقع أفعالنا وردود أفعالنا وسلوكياتنا بشكل عام، كتجليات له بصورها الفوضوية. 

ففي شق من حيواتنا العامة، يبدو أن ما نتداوله من خطابات على جميع مستوياتها، خاصة على المستوى السياسي والمؤسساتي لا يرقى إلى ما يمكن أن نتجاوز به إشكالياتنا المعاصرة، خطابات تدور في فلك الثقافة التقليدية وهامشية الفكر السياسي العقلاني، فإذا ما حاولنا أن نخضعها إلى آلية استقراءات واستنتاجات العقل السياسي الخالص كما أبدع في مقولاته وتخريجاته للشأن السياسي العام، لا يمكننا الحصول على أية خلاصة فكرية سياسية تروم الوقوف على كوننا كيانات سياسية ومؤسساتية تعمل على إنتاج وإبداع فكر سياسي مناسب، ما دمنا نفتقد إلى أبسط الشروط العدالة والديمقراطية في تصوراتنا تجاه مفهوم الشأن العام .

لقد صارت دولنا و مؤسساتنا على اختلافها تعاني من الشخصنة، فكلها تختزل في اسم ما. فأين إذا هي خطابات الحداثة السياسية المتبناة لفظيا والفكر المؤسساتي الذي يدرس في مدارسنا وجامعاتنا؟ إذ صار شأننا العام مجرد يافطات، شعارات عُروشُها خاوية الوفاض. وهنا يأتي في ذهني سؤال آخر، هل الشعوب العربية/ الإسلامية ضحية ممارسات وتوجهات سياسية فوقية أم أنها ضحية أيضًا لتصوراتها تجاه كل مكونات واقعها على اختلاف مجالاته؟ وماذا عن ردود أفعالها؟ ماذا عن علاقات أفرادها البينية وتكتلاتها المجتمعية؟ أسئلة وأخرى تُطرح في ذهني على ضوء التجربة المعاشة. رغم ذلك، أرى أن القدرة الإنسانية قد تغير مجريات الأحداث ومسارات التاريخ إن تم تفعيلها بشكل إيجابي تفاعلي بين أفراد المجتمع وتكتلاته، ومهما كانت قوة التحكمات من السلطة لا يمكنها إطلاقًا أن تنال من قوة شعب.

ربما تكمن إحدى مشكلاتنا في أننا نركن إلى الجبرية ونستبعد إمكان المبادرة والفعل الهادف والاختيار والتجريب، ولا نثمن جهد من أراد أن يبادر على كل صعيد، ونعلق سبب الفشل دومًا على الغير، دون استثمار فعال لمحددات وجودنا: الجغرافية، التاريخ، السياسة، الاجتماع، الثقافة، الفلسفة، الفكر، الاقتصاد.

لقد تعددت صورنا الدراماتيكية في علاقتنا بالمشهد الرسمي والسياسي الحزبي والتيارات السياسية المتعددة والمختلفة الألوان والأطياف، لكن من دون فوارق بين كل الأدبيات الأيديولوجية لكل من هذا وذاك، وهذا ما نلحظه في الواقع السياسي العربي والإسلامي، حيث يتعذر علينا الفرز الحقيقي بين التيارات السياسية ذات المنحى اليساري والأخرى ذات التوجه اليميني أو الوسطي كما يُروج، فلا يسار غير مجرى التاريخ السياسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي لعموم الجماهير الشعبية والبروليتاريا، ولا خلق سلطة في يدها وجعلها متحكمة في مصائرها، ومن ثَمّ ريادة شعوب بذاتها، ولا يمين برهن عن تبني طروحات ذات المنحى الرأسمالي الليبرالي، في أفق تحديث وحداثة كما هي متبناة في الغرب، ولا وسط مزج بين كل الأدبيات الأيديولوجية في خلطة تأتي من كل الأفكار السياسية والأيديولوجية في كل أبعادها، وطرحها لحل الأزمات في تجاوز لما قد طُرح في غيرها، وهكذا فلا يسار أدخل التاريخ العربي الإسلامي إلى غرفة الإسعافات والمستعجلات للعلاج والقضاء على تاريخ الاستبداد والظلم والفساد والتأخر التاريخي والحضاري، ولا يمين خلق لنفسه فسحة تاريخية وحضارية في تجاوز للغرب الرأسمالي الليبرالي بليبرالية أكثر عدالة، بل إنه جذر التبعية والاستلاب في علاقاته بالقوى الغربية، ولا وسط أسس لبعد ثالث في طروحاته لتمييز نفسه عن الآخرين، على أساس قراءات مزعومة الاختلاف، وبالتالي هناك أزمة عقل سياسي عربي إسلامي.

إن لكل أمة أو شعب مقومات النهوض إذا ما تم استثمار وتفعيل مقومات الوجود الخاصة، وهو ما يتأتى للعرب / المسلمين، بكل قوة، لما لديهم من إمكانات هائلة على جميع المستويات، ومن ثَمّ فرض وجودهم بالفعل ندًا للند في علاقاتهم بكل الأمم والشعوب والحضارات الأخرى، حين تتوفر الإرادة التاريخية والسياسية والحضارية، هذا ما يقول به الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين وآخرون في حق العرب/ المسلمين، وبالتالي إنهاء واقع التبعية والاستلابات الحضارية المتعددة، خاصة مع غول سيولة العولمة التي تُفرض فرضًا على الشعوب من قبل القوى العالمية المهيمنة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبد المجيد بن شاوية
كاتب مغربي مهتم بالقضايا الفكرية والثقافية، وباحث في الشؤون المغاربية
كاتب مغربي
تحميل المزيد