أظهر الصراع بين روسيا والغرب أن القضاء الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى تقوم على الدول والسلطة السياسية. المفترض أن تدير الدول وأن تكون منتخبة هي التي تدير سياسات هذه المؤسسات نيابة عن الدولة، هذا في الدول الديمقراطية التي تمثل نسبةً قليلة جدًا من دول العالم. أما النسبة الأكبر فهي الدول المتخلفة التي تسيطر فيها النخبة العسكرية أو الحزبية أو السياسية أو الأسرية على كل أدوات السلطة وتمثل هذه الشعوب في هذه المؤسسات، فتحرم هذه الشعوب من حقها في التعبير عن نفسها في الداخل والخارج.
وعلى سبيل المثال فإن الموالي لسياسة النخبة وخطها في الدول المتخلفة هو الذي يُرشح للمناصب الدولية حتى لو كان فقيرًا في المؤهلات والكفاءة. ولذلك ظنت إسرائيل أن العقلية العربية عقليةٌ متردية قياسًا على عقليات الحكام العرب، وهم أكثر عناصر الأمة سطحية ولا يستعينون إلا بالعناصر السطحية بشرط أن تكون موالية. وهذا يؤدي في نهاية المطاف وعلى المدى البعيد إلى سقوط الدول المتخلفة وإلى حرمان المنظمات الدولية من الكفاءات، وقِس على ذلك في جميع المجالات.
فمحكمة العدل الدولية قاصرة على منازعات الدول القانونية وعضويتها قاصرة على الدول. ولذلك يستحيل رفع قضية تتعلق بالدولة إلا من خلال حكومتها، وقد كثرت ظاهرة استيلاء الحكومات الأوروبية على إرادات حكومات الدول المتخلفة، كما اتسمت هذه الحكومات بعدم القدرة على الإدارة حتى لو توفر لديها الإخلاص والحرص على الوطن، وهو أمر مشكوك فيه لأن الحكومة في الدول المتخلفة تقدم نفسها على أنها الدولة في الداخل والخارج.
ولذلك لابد من البحث عن طريقة أخرى لتمثيل مصالح الدول المتخلفة، وأن يكون هناك منصة لسماع شعوبها بعيدًا عن فكرة تشجيع الدول الأجنبية للمعارضة لهذه الحكومات، فهذه المعارضة تجد سندها الوحيد في الحكومات الأجنبية، وإذا كانت هذه لها مصلحة مع حكومات الدول المتخلفة فإنها إما أن تشجع المعارضة أو أن تقضي عليها. وقد رأينا أمثلة كثيرة لذلك في الحالات العربية جميعًا.
وإذا كانت حكومات الدول الديمقراطية من مصلحتها أن تسلم المعارضين لحكومات الدول المتخلفة فلا عبرة لشعارات حقوق الإنسان وغيرها من الشعارات التي تملأ سماوات الدول المتخلفة. وأبرز مثال على ذلك هو النظرية التي تقول إن حقوق الإنسان ليست مطلقة وتختلف من دولة إلى أخرى، وأحيانًا يضر هذه الأفراد معاملتها معاملة إنسانية وقد يصلح معها معاملة العبيد. والطريف أن هناك تفهمًا لذلك بين الدول الديمقراطية والدول المتخلفة، ولذلك أصبحت منظمات حقوق الإنسان عالمية ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بعيدة تمامًا عن الواقع مادامت المصالح في الدول الديمقراطية هي التي تحكم سلوك هذه الدول حتى لو على حساب المبادئ. وهذه النظرية معترف بها في العلاقات الدولية والنظرية البراجماتية الواقعية التي تقدم المصلحة على المبدأ مهما كان التناقض بينهما فادحًا وواضحًا.
وإذا كانت الدول هي التي تنشئ المنظمات الدولية عن طريق الحكومات، فإن الشعوب بحاجة إلى تطوير الإدارة الأهلية التي تراقب الحكومة والتي تروج لفكرة التمثيل الشعبي غير الحكومي في الإطار الدولي. ونقطة البداية في ذلك هي تشكيل مجتمعات مدنية واعدة تستطيع أن تشكل منتديات دولية في جميع القطاعات وخصوصًا القطاع السياسي والقطاع القضائي.
وقد نشأت هذه الفكرة بسبب اختلاف الرؤى في إدارة بعض الملفات بيني وبين بعض الحكومات المتعاقبة في مصر، ونخص بالذكر ملفين. الملف الأول هو ملف وادي النيل، والملف الثاني هو ملف القروض الأجنبية. وقد أصبحت المعلومات الخاصة بهذه الملفات واضحة ومعلومة ولا يمكن تبرير سلوك الحكومة بأنها تعرف ما لايعرفه المواطن، فقد أصبحت مصادر المعلومات الدولية موثقة مقابل تراجع مصداقية البيانات والمعلومات التي تقدمها الحكومات الداخلية.
وأقترح أن تكون هناك منصات للمناظرة أمام شعوب هذه الحكومات التي حرمت منها العناصر العاملة لمصالح الوطن في الداخل والخارج. وعلى سبيل المثال، فيبدو أن إثيوبيا لديها الكثير من أوراق القوة ضد مصر، ولذلك فرضت عليها موقفًا أحاديًا تشكو مصر منه، ولكن تململ الحكومة المصرية لا يكفي لدفع الكارثة التي تتعمد إثيوبيا أن تلحقها بمصر، وهي حرمان مصر بالكامل من حقوقها القانونية في نهر النيل. ومن مصلحة الحكومة أن تنشئ جمعية أهلية لها الحق في الاشتباك العالمي مع إثيوبيا مادام الهدف في الحالتين واحد وهو استخلاص حقوق مصر المائية من إثيوبيا. وتفسيري لسلوك الحكومة المصرية هو أنها ربما اعتقدت أن تحسين العلاقات الشخصية بين القيادات السياسية في البلدين يمكن أن تكون ضامنًا لحقوق مصر المائية، ولكني أرى أن هذا المنهج في حالة إثيوبيا لايجدي. ولدي روشتة كاملة للتحرك المصري سبق أن أوضحتها ومستعد لإيضاحها مرة أخرى في سلسلة مقالات حول هذا الموضوع.
الملف الثاني هو ملف القروض. تقديري أن القيادة السياسية لم تجد دعمًا من الوزراء الفنيين بل وجدت تشريعًا غير قائم على المصلحة المصرية الخالصة وإنها استغرقت في هذا السبيل، ولذلك شعرت بالغضب الشديد عندما استمعت إلى وزير المالية يؤكد أن خدمة الدين وأقساطه وصلت إلى نسبة فارقة في الميزانية وفي الدخل القومي الإجمالي وكذلك في الناتج القومي الإجمالي. وأكد في الإعلام المصري أن احتياجات الدولة يتم تمويلها من خلال قروض جديدة، ولذلك من مصلحة الحكومة أو الدولة أن تلجأ إلى نظرية اخترعتها الولايات المتحدة في القانون الدولي وهي أن القرض يجب أن يوجه إلى تطوير الاقتصاد القومي.
أما إن وجه لغير ذلك فالدولة ليست ملزمة بأداء هذا الدين. وقد اخترعت واشنطن هذه النظرية لكي تحرم إيران من التعويضات المستحقة على العراق بسبب شن صدام حسين الحرب على إيران بشكل عبثي. وفي هذه الحالة يجب تنبيه الأمم المتحدة والدائنين والمقرضين الجدد إلى هذه النظرية وأن يقوموا جميعًا بالاستيثاق من مدى توافر هذا المعيار المسقط لالتزام الدولة في رد الدين. والملاحظ أن هذه الجهات تساهلت كثيرًا وشجعت باستمرار علي الاقتراض بل ونشرت تقديرات مزيفة حول قدرة الاقتصاد المصري على السداد.
وفي المقال القادم توضيح لآليات ومبادئ إنشاء القضاء الدولي الخاص بالشعوب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.