هل تفشل الفلسفة في اختبار غزة؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/08/08 الساعة 12:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/08/08 الساعة 12:57 بتوقيت غرينتش
جانب من الدمار الذي خلفه الاحتلال بحي الرمال وسط مدينة غزة/ رويترز

في عالم يمتلئ بالضجيج الإلكتروني والصخب التكنولوجي، نبدو وكأننا نسير بخطى حثيثة نحو مستقبل مجهول، تحفه الآمال والتطلعات والأطماع بالرفاهية، ولكن خلف هذه الآمال تختبئ أوجه عديدة للتناقضات والأزمات الأخلاقية. فما يحدث في غزة من إبادة لشعب لن يكون مجرد حدث عرضي عابر في التاريخ، إذ عرّت الحرب على غزة قشرة الحضارة التي كان العالم يتغنى بها. فلا أدري كيف يمكن للكثير من الفلاسفة والمثقفين عصرنا أن يقفوا صامتين، أو حتى داعمين، للمذابح الجماعية التي تُرتكب بحق الأبرياء؟ كيف كثر في أرضنا كل هؤلاء الرماة بدلاً من الغزلان، الذين يباركون بالصمت مدعي الحضارة (الاحتلال الإسرائيلي وداعميه) أن يحولوا التطور التكنولوجي الذي كان من المفترض أن يكون أداة للرقي والازدهار، إلى أداة للفناء والدمار؟

لا أعتقد إطلاقاً أن الفلسفة، بطبيعتها التأملية العميقة، يمكن أن تنفصل عن الأخلاق. فإن لم تكن الفلسفة وسيلة للسير في طريق الحقيقة لتحسين حياة البشر وجعل العالم مكاناً أكثر عدالة، فما قيمتها؟ فأسأل نفسي وأسألكم، هل يمكن لفلسفة إيمانويل كانط، الذي شُيدت على أساس إرادة الخير والواجب الأخلاقي، أن تبرر صمت الفلاسفة والمثقفين أو تواطؤهم مع الجرائم الجماعية التي تُذاع مباشرة أمام أعين العالم؟!

ما أعتقده، أن لطالما كانت الفلسفة تسعى إلى تحقيق الفهم العميق للوجود الإنساني ولأخلاقيات الحياة. ففيلسوف مثل إيمانويل كانط، الذي بنى فلسفته على أسس الواجب الأخلاقي والإرادة الخيرة، كان يؤكد أن الفلسفة الحقيقية يجب أن ترتبط بالأخلاق. فعلى قدر فهمي، أدركت أنه إذا فقدت الفلسفة هذا الارتباط، فإنها تتحول إلى مجرد تمارين ذهنية لا طائل منها. فواجب الفلسفة دائماً أن تكون مرشداً أخلاقياً، توجهنا نحو العمل الصالح وتحثنا على تحقيق العدالة.

أتذكر هنا عام 1961، عندما شهد العالم لحظة فلسفية وأخلاقية فارقة عندما قدم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مقدمة لكتاب الفرنسي المناضل فرانز فانون "معذبو الأرض". كان ذلك بمثابة نداء صارخ ضد الاستعمار والعنصرية التي مارستها بلاده، فرنسا، ضد الشعوب المستعمرة. سارتر، الذي أحب فرنسا وحارب من أجلها في صفوف المقاومة ضد النازية، لم يتردد في اتخاذ موقف جريء يتناقض مع السياسة الاستعمارية لبلاده.

في مقدمته للكتاب، صرح سارتر بوضوح أن فرنسا يجب أن تخلص نفسها من فرنسا؛ أي أن فرنسا، تلك الحرة المثالية التي يؤمن بها، يجب أن تفصل نفسها عن فرنسا الدولة الاستعمارية. كان هذا إدانة صريحة لسياسات بلاده الاستعمارية، ودعوة إلى التحرر من الظلم والاستبداد ودعمه المقاومة بكل أشكالها.

إن الفلسفة ليست مجرد تأملات عقلية، بل هي نضال يومي من أجل تحقيق العدالة والحرية لكل البشر وليس للرجل الأبيض فقط. فموقفه من الاستعمار الفرنسي كان إعلاناً قوياً بأن الفلسفة يجب أن تكون في خدمة الإنسان، كل إنسان.

أما اليوم، أجد لا فقط الفلاسفة بل الكثير من الأكادميين الذين يلتزمون بالصمت أمام الجرائم الجماعية في غزة، ولست مبالغاً إن قلت أنه هذه خيانة لجوهر الفلسفة نفسها، كيف يمكن لنا أن نقبل بفلسفة تتجرد من الأخلاق وتصبح مجرد رفاهية فكرية؟

إن الخذلان الذي شهدته غزة هو انتكاسة لكل قيم التقدم والإنسانية. ففي مقابل كل هذا التطور والتحضر الذي يدعيه العالم، لا يرى أطفال غزة منه سوى أسلحة وصواريخ موجهة نحو صدورهم بدقة.

رغم ذلك، يظل هناك أمل فمازالت هناك أصوات لفلاسفة ومثقفين لم يترددوا في الوقوف ضد الظلم والعدوان. نعوم تشومسكي وجيل دولوز و جوديث بتلر، على سبيل المثال، لم يترددوا منذ زمن في انتقاد الاحتلال ووحشيته، مؤكدين على ضرورة الالتزام الأخلاقي والدفاع عن الإنسان. فلم يكونوا مجرد ناقدين من برج عاجي، بل كانوا بحق فلاسفة. وهنا أتذكر الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي قال: "الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، لكن المهم هو تغييره". فالتفسير وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك عمل فعلي لتحقيق التغيير الإيجابي.

إن المسؤولية الأخلاقية تقع على عاتق كل فيلسوف ومثقف يعي حجم الظلم الذي يحدث، ولا يقف مكتوف الأيدي أمامه. فعلى الجميع أن يعيد النظر في مفهوم التقدم الحضاري، وأن يضع الأخلاق في مقدمة اهتماماته. يجب أن نتساءل جميعاً: ما قيمة التقدم إذا كان يُستخدم لتدمير الحياة؟ كيف يمكن لنا أن ندعي الرقي والازدهار ونحن نساهم في إحداث المعاناة والفناء؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مظفر حبيبوليف
كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تحميل المزيد