مضى 10 أشهر على استمرار المجزرة في غزة، حيث بلغت الوحشية في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة مستويات غير مسبوقة. قد تعالت أصوات المنظمات الحقوقية والإنسانية ضد إجرام الاحتلال لتجاوزه المعايير الدولية، رغم ذلك، لم تؤثر تلك الأصوات أو الدعوات في تخفيف مأساة الغزيين، التي تتفاقم يوماً بعد يوم. بل حتى الدعوات التي أطلقتها الأمم المتحدة لم تفلح في كبح جماح الهمجية الإسرائيلية في غزة. فلم تكن مواقفها أكثر فعالية من الآخرين، على الرغم من استمرار تعرض أهالي القطاع للإبادة والقتل الوحشي، ولم تعترف الأمم المتحدة والعديد من المنظمات بوقوع إبادة إلا بعد فوات الأوان.
وبقيت الدعوات وإعلان العقوبات ضد إسرائيل، لما يحدث في غزة، صرخات في الفضاء بلا صدى، لم تلقَ من يتجاوب معها أو يلتفت إليها. بينما، تظل المجزرة المفجعة واقعاً حقيقياً لا يمكن أن تنكره عين، مستمرة في إحراق قلوب من بقي لهم ضمير في هذا العالم بلا رحمة، كظلال قاتمة تطغى على أفق الأمل بالعدالة.
تجاوز عدد الشهداء 40,000، بينما قفز عدد الجرحى إلى أكثر من 60,000، في مشهد من الألم لا يُمكن وصفه. أما عن المفقودين، من بين المعتقلين أو أولئك المدفونين تحت الأنقاض، فقد ظل عددهم لغزًا غير محدد، يتوارى خلف ستار من الحزن والضباب. الحرب تتواصل، تاركةً الأرقام تتصاعد لحظةً بعد أخرى.
أما الدمار، فقد اجتاح كل ما هو قائم، فقد جُرفت البنية التحتية بالكامل تقريبًا، وقدرت تقارير متعددة نسبة الخراب بنحو 75%. غزة، التي كانت يوماً ما موطنًا لأكثر من مليوني إنسان، تتلاشى أجسادهم وما تحمله من أحلامهم وطموحاتهم تحت وطأة صواريخ الاحتلال أمريكية الصنع، فأصبحت المدينة حقيقة لا مجازاً "غير قابلة للحياة"، وكأنها مدينة للموت بكل أشكاله بعد أن كانت مكاناً ينبض بالحياة والأمل.
يميل عالمنا اليوم لحساب كل شيء بالأرقام والإحصاءات، لكن تأتي غزة لتُظهِر لنا محدودية هذا النهج، فالأرقام، مهما كانت دقيقة، تظل قاصرة عن استيعاب حجم الكارثة التي يعيشها الفلسطينيون هناك. ثمة خسائر تتجاوز الحسابات والنسب المئوية، تتجلى في الألم الذي لا يُقاس بمداد الأرقام.
فمن يستطيع أن يحصي ما في داخل الغزيين من ألم؟ فعندما ألمح عيونهم على الشاشة لا أجد غير الألم العميق، والتيه، والغضب، والحزن. عيون وقلوب تطوي في داخلها جروحاً مفتوحة من فقدان الأحبة وأوجاع الجرحى الذين يتوسلون شفاءً لا يأتي. كم من الغزيين أصبحوا يمشون مع الموت، وهم يشاهدون أحبائهم يسقطون أمام أعينهم؟ وكم من طفل، رجل، وامرأة، حالفهم الحظ ولم تصبهم صواريخ الاحتلال، لكنهم فارقوا الحياة وهم يقفون في طوابير طويلة، يتمنون الحصول على وجبة غذاء أو قنينة مياه، حيث سحبهم الموت ببطء إليه؟
أما أطفال غزة، فتجربتهم هي الأكثر بؤسًا في هذه الحرب. فمن نجا منهم من الموت كبر قبل أوانه، يعيش في الخيام مع عائلته في ظل نقص حاد في الموارد الغذائية. لا ألعاب، لا كرة قدم، لا احتفالات بالأعياد، ولا حتى ثياب جديدة. بدلاً من ذلك، تتحمل أكتافهم الصغيرة مسؤوليات ضخمة بعد أن فقدوا عائلاتهم، وتظل ذاكرتهم تحتفظ بالبشاعات التي لن تمحى. فأذكر ذلك الطفل، وهو يشرح كيف قتلوا أمه وأخاه الذي لم يكن قد جاء إلى الدنيا بعد في بطنها.
ولا أنسى كلام صديقي وهو يحكي أحوال أسرته هناك وأنني أعجز حتى عن التخفيف عنه، وكيف تتشظى قلوبهم مع كل لحظة تمر. فالعيش في الخيام، كما يصفه، هو نوع آخر من العذاب الذي لا نستطيع إدراكه ؛ حيث يهرب السكان من حرارة النهار إلى برودة الليل التي تشد على عظامهم. وكيف يتسلل القهر إلى نفوسهم مع الألم الجسدي، وهذه جروح لا يستطيع العقل أو العين أن تدركها.
هل هذا كل ما خسره الغزيون اليوم؟ بالطبع لا، فالمجزرة لم تتوقف بعد!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.