فتحت عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران باب التساؤل عن حقيقة إيران وقوتها، والشك في صلابتها من الداخل، وحتى الجدوى من الرهان عليها؟ فبعد اغتيال خبرائها وعلمائها وحتى قياداتها الأمنية في عمليات استعراضية داخل إيران نفسها، يأتي اغتيال أبي العبد ليخلق وضعًا صعبًا ضاغطًا ويشكل همًّا ثقيلاً على النظام ونواته الصلبة، لأنه يكشف عورة إيران ونقاط ضعفها على مستويات مختلفة نسجل بعضها فيما يلي:
1- ضعف الصف في الداخل الإيراني ولدى أذرعها التابعة، فقبل هنية اغتيل العاروري في بيروت (في قلب قلعة الحزب) وإذا تجاوزنا الحالة اللبنانية لأسباب كثيرة أقلها أن حزب الله ليس دولة ويتحرك في بيئة معادية، فوضع إيران يحيلنا إلى الهشاشة الكبيرة في الداخل الإيراني خاصة في ظل نظام شمولي يسيطر باسم المقدس منذ 45 سنة على الدولة ومقدراتها.
2- عمق وفداحة الاختراق الأمني للحرس الثوري أساسًا باعتباره جيشًا عقديًّا، فمن جهة إمكانياته وأدواره تفوق الجيش النظامي، ومن جهة ثانية قياداته رجال ثورة وأبناؤها قبل أن يكونوا تقنيين وخبراء عسكريين، ونظريًّا وفي مثل هذه المناسبات (حفل تنصيب الرئيس) تكون الاستعدادات الأمنية والإجراءات الاحترازية في أعلى مستوياتها ومنه يصبح الضيوف في أكثر الأماكن أمانًا لحظتها.
3- المس بهيبة القوة الإقليمية بانتهاك سيادتها وإهانة قياداتها، بما يدخل الريبة لدى حلفائها قبل أعدائها حول حدود المراهنة عليها ومدى اعتبارها جهة آمنة لإحتضان المقاومة ورجالاتها.
4- إرباك محور المقاومة، وخاصة الأذرع التابعة وتضييق خياراتها في التحرك على اعتبار من سيتكفل بضمان الحماية وتوفير خط الرجعة بعد تأديب الراعي في حد ذاته وعلى أرضه.
المعادلة الحالية "الموازنة بين الصبر الاستراتيجي والردّ الاستراتيجي":
بالعودة إلى ماقبل الطوفان انخرطت إيران وأذرعها دون مراعاة لشعوب المنطقة في عمليات قتل وتشريد لأبناء الشعب السوري انتصارًا لنظام الأسد الطائفي على مدى عقد من الزمن تورط فيه ما يسمى بمحور المقاومة في دماء الأبرياء وناصر الظلمة والمفسدين، ففقد صورته الناصعة وأسفر عن وجهه الحقيقي وانكشفت أبعاد وحقيقة مشاريعه للمنطقة ومستقبلها، لكن بدعمها الصريح للمقاومة في غزة وفتحها لجبهات الإسناد عبر أذرعها حقق النظام الإيراني مكاسب استراتيجية نعددها فيما يلي:
-تثبيت أحقيته في قيادة محور المقاومة، -ترميم نسبي لصورته لدى شعوب المنطقة وقواها الحية، -الحصول على تراكم مجاني لقوة الردع والقدرة على التأثير، -المساهمة في التآكل التدريجي لقوة الردع الإسرائيلي، -إضعاف دور أمريكا في المنطقة مقابل ظهور محور روسيا-إيران وبدرجة أقل الصين من وراء ستار.
لكن تمادي الاحتلال في إحراجها حشرها في زاوية لا تريدها ولم تكن تتمناها، فالخيار الوحيد أمامها الآن هو الرد وبقوة على تجاوزات نتنياهو وحلفائه، لكن ذلك يشكل معضلة أكبر وأخطر لأن ردها يعني مما يعني استدراج إيران إلى حرب واسعة يظهر أن الغرب يريدها ومستعد لها ويشجع محميته على إثارتها.
فما قام به المحتل يعني أن كل شيء مستباح لديه ولا خطوط حمراء يتوقف عندها، كما يشير بوضوح أن خياراته تغيرت فبعد السقف العالي للأهداف التي وضعها في حملته لإبادة غزة وعجزه عن تحقيقها ها هو يسعى لترميم قوة ردعه المتآكل ببعض الانتصارات التكتيكية والعمل على مسح مكاسب إيران التي حصلتها على إثر ضربتها العسكرية المباشرة والمعلنة للداخل الإسرائيلي.
كما أن المحتل لم يخف سعيه لجر أمريكا إلى مواجهة مباشرة مع إيران و قطع الطريق أمام أي احتمال للتقارب بينهما وخاصة في الملف النووي، ويعضد هذا المنحى تجديد أمريكا دعمها المطلق للاحتلال الإسرائيلي وشروعها في تحضيرات مكثفة على الأرض في تهديد مباشر لإيران وحلفائها.
فالثابت إذن أن إيران ليست مستعدة لهاته الحرب وسياستها تحت عنوان "الصبر الاستراتيجي" واضحة وتتمثل أساسًا في حماية النظام وتثبيت أركانه وهذا يقتضي بالضرورة عدم خوض حرب مباشرة وشاملة مع أمريكا والغرب عمومًا تعلم أنها مكلفة ومدمرة، وكانت حركة ذكية من النظام الإيراني بخلقه لأذرع مسلحة كخط دفاع أول للإسناد والإشغال وحتى لاستنزاف البيئة المعادية أملًا في كسب الوقت لامتلاك قوة الردع النووي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالحرب الشاملة من مصلحة العدو وتمثل طوق نجاة لحكومته الغارقة في وحل غزة.
المعادلة المأمولة إمكانية "الرد الاستراتيجي":
من المعلوم أن من سنن اجتماع الناس وتدافعهم أن المعتدي يكسب قوته وإقدامه أساسًا من خنوع الناس وجبنهم، ففي تقدير الكثير من المتابعين أن قدرة المحتل على فعل ما يريد على الأرض الإيرانية مرده أساسًا الدعم الغربي غير المحدود، ومبالغة إيران في الحذر وتركيزها على مبدأ تجنب المواجهة بحيث خلقت لنفسها ولصناع سياساتها سقفًا تحول إلى مبالغة في امتصاص الضربات المؤلمة، والظاهر أن العدو وبتوجيه من حلفائه أدرك مخاوفها واستوعب حدود رد فعلها فراح يعبث بأمنها وصورتها وتحفز لضربها متى شاء وفي أي مكان!
ومع هذه الصورة القاتمة توجد مقاربة ثانية تقدم صورة ثانية لحقيقة الوضع نلخص أهم مشاهدها في كون:
1- أخطر عنصر وهو أمريكا تعيش لحظة فراغ على رأس إدارتها يمكن أن تتحول إلى لحظة ضياع، وهي في وضع ضعف في وقت خطير وحساس لم تعش أمريكا مثله من قبل.
2- الطرف الثاني ممثلا في أوروبا يسجل انقسامًا حادًا في موقف أعضائه، مع انشغاله التام بالحرب الأوكرانية التي تجعله تحت التهديد الروسي المباشر دون تغطية من جهة، كما تعيش هاجس التهديد المحتمل بعودة ترامب مرة ثانية من جهة أخرى.
3- الاحتلال في وضع حرج ومعقد بسبب الخطر الكبير الذي يهدد وجوده في ظل حرب الاستنزاف التي تفرضها عليه المقاومة، وفي ظل الانقسامات الخطيرة داخل طبقته السياسية وقياداته العسكرية والأمنية.
4- التحالف الروسي-الصيني متأهب ويتحين الفرصة المناسبة للانقضاض لتقويض الهيمنة الأمريكية التي عانوا منها وذاقوا بسببها الكثير في ظل هذه الصورة المشجعة على قادة إيران الضرب بقوة في العمق بما يؤذي العدو ويجعله يحسب ويعيد حساباته قبل التفكير في الضرب مرة أخرى، ولا أعتقد أن خيارات أمريكا متعددة وسهلة، فتجربتها في أفغانستان علمتها دروسًا كثيرة مؤلمة في محاربة الشعوب ومحاولة تغييرها بالعبث في قيمها ومبادئها المقدسة، ويكفي كمثال للتدليل على خوارها عجزها عن إيقاف التهديد الكبير الذي خلقه الحوثيون على الملاحة البحرية والخسائر الفادحة التي تلقاها العدو أساسًا والتجارة العالمية عمومًا.
أخيرًا: نقول لا خيار أمام إيران إلا الرد المؤلم بضرب أهداف حيوية في الداخل الإسرائيلي بعيدة عن خصائص ومحددات الرد الأول والذي عرف بعملية "الوعد الصادق" مع تجاوز فكرة الضرب النظيف والموعد المكشوف، وإلا فلا شيء سيمنع نتنياهو من تكرار الاختراق وإعادة الضرب بصورة أقوى.
لأن انتصار القيادة الإيرانية لسياسة التحفظ مرة أخرى تحت مسمى الصبر الاستراتيجي سيؤكد الطرح القائل أن قضية فلسطين موضوع ثانوي توظفه إيران فقط لتعزيز مكانتها الإقليمية، وورقة تستغلها لتقوية موقعها التفاوضي مع الغرب، وسياسة علاقات عامة بهدف تبييض صورتها وتحسين سمعتها لدى شعوب المنطقة وخاصة بعد موقفها المخزي من الشعب السوري وطموحاته في الانعتاق .
كما ننصح كل من يتصدر قيادة شعوبنا بدروس مهمة نستفيدها من الوضع الحرج الذي يقف فيه القادة الإيرانيون مفاده أن المبالغة في التحفظ والتردد وسوء تقدير الموقف تُكلفنا خسائر أضعاف خسائرنا عند الإقدام المدروس، ومن المفيد هنا تجاوز سقف التحرك الذي تفرضه منظومة الهيمنة الغربية، ولنا في طوفان الأقصى المثال الحي.
لذلك، والظاهر أن روسيا فهمت الدرس وها هي تبادر وتستغل الظروف الجديدة التي خلقها طوفان الأقصى لتسجيل انتصارات جديدة على الأرض الأوكرانية بعدما كانت في وضع الدفاع ومهددة حتى في حدودها التاريخية، وها هي تمارس سياسة ملأ الفراغ الذي تركه الغرب في الساحل الإفريقي عبر ذراعها غير الرسمي المسمى فيلق إفريقيا.
كما نؤكد أن لا مستقبل لأي قوة تنتصر للطائفة على حساب مبدأ نصرة المظلوم وتحرير الشعوب ، فالمبادئ لا تتجزأ وحبل الكذب قصير ولا أمل لها في قيادة هذه الأمة مهما كانت بداياتها مشرقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.