من إدوارد سعيد إلى سمير أمين.. هل يمكن حقاً أن نقضي على الاستعمار؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/08/05 الساعة 11:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/08/05 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
خريطة للإمبراطورية البريطانية في عام 1886/ Wikimedia Commons

مع أول قراءة لأعمال إدوارد سعيد وسمير أمين، وجدت نفسي أعيد تشكيل فهمي لموقعي في العالم؛ استشعرت مكاني والفجوة بيني وبين كل ما حولي، وراجعت كيفية رؤيتي للعالم وكيف يراني هو بالمقابل. خطواتي في التلك النصوص كانت كحبو طفل يكتشف العالم حوله، إذ كان لمفاهيم مثل: "المركزية الأوروبية" و"الاستشراق" الأثر البالغ في تغيير نظرتي للعالم بشكل جذري. فبينما يفكك إدوارد سعيد الهيمنة الثقافية الغربية على الشرق، يكشف سمير أمين  عن البنية الاقتصادية للرأسمالية والإمبريالية المستمرة في استغلال دول الجنوب إلى اليوم.

إدوارد سعيد و الاستشراق

في عام 1978، أطلق إدوارد سعيد كتابه "الاستشراق"، مفجرًا بذلك ثورة فكرية تردد صداها حتى اليوم في الأروقة الأكاديمية والسياسية على حد سواء. من خلال كتابه، قدم سعيد تحليلاً نقديًا لكيفية نظر الغرب إلى الشرق، مشيرًا إلى أن الصور النمطية والتصورات التي شكلها الغرب للشرق لم تكن مجرد مفاهيم معزولة فحسب، بل كانت في نفس الوقت أدوات تبرير ذات فاعلية للسياسات الاستعمارية التي سادت على مر العصور.

سعيد استطاع أن يفكك كيف استمر الغرب في استخدام هذه الصور لتأكيد تفوقه، مصورًا الشرق ككيان غريب، غير عقلاني، ومتخلف. وكيف أنه من خلال تلك التمثيلات، عزز الغرب سردية تفوقه الثقافي والأخلاقي، وهي السردية التي نرى تأثيرتها إلى الآن، في كل شئ ابتداء من اللغة إلى الفكر الاستراتيجي الذي يوجه ويتحكم سياسات دولنا.

المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد

إذ استطاع سعيد في تسليطه الضوء على دور التمثيلات الثقافية في تشكيل علاقات القوة السياسية، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح خلال الحرب الوحشية المستمرة على غزة اليوم. لذلك، أرى أن رؤى إدوارد سعيد مهمة للغاية بالنسبة لنا و لكل الأجيال القادمة في الشرق بشكل خاص، و في الجنوب بشكل عام، إذ يتعين علينا فهم كيف تستمر هذه التصورات الغربية المشوهة في التأثير على السياسة العالمية وموازين القوة وتطويع الإخضاع للغرب سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي. فهمنا لهذه الديناميكيات ليس مجرد مسعى أكاديمي، بل هو ضرورة قصوى تهدف إلى إعادة تعريف كيف نُشكل مستقبلنا السياسي والثقافي بما يخدم مصالح شعوبنا ويعزز من استقلاليتنا.

سمير أمين والمركزية الأوروبية

بينما يأتي سمير أمين ليفكك هو أيضاً الأسس الاقتصادية للإمبريالية والرأسمالية، مستكملًا بذلك النقد الثقافي الذي قدمه إدوارد سعيد في "الاستشراق". فبينما يكشف سعيد عن كيفية استخدام الغرب للصور النمطية لتبرير هيمنته الثقافية، يعتمد أمين على أدوات ماركسية لتفكيك البنية الاقتصادية الاستعمارية الرأسمالية التي نشأت بفضل الاستعمار.

ويُعتبر الاقتصادي وعالم الاجتماع المصري، سمير أمين، أحد أبرز الخبراء في مجال الاقتصاد السياسي عالميًا، ورائدًا في تحليل تاريخ البشرية المعاصر من منظور دول الجنوب. وببراعة هو الأخر يوضح لنا كيف تعمل الرأسمالية على حساب أبناء الجنوب من خلال نظرية "المنظومات العالمية".

فببساطه، يرى سمير أمين أن الاقتصاد العالمي ينقسم إلى منطقتين رئيسيتين: المركز، الذي يمثل الاقتصادات المتقدمة، والأطراف، التي تمثل الاقتصادات النامية المعتمدة على المركز. وفقًا لنظريته، تفرض دول المركز هيمنة اقتصادية، سياسية، وثقافية على دول الأطراف، مما يتيح لها استغلال مواردها والسيطرة على اقتصاداتها، وتعزيز استمرار هيمنتها الثقافية. هذا الواقع يجعل الاقتصاد العالمي يثري دول المركز بطريقة دورية وغير عادلة، مبقياً وبشكل مستمر على دول الأطراف في دائرة الفقر والتبعية بشكل ممنهج.

من إدوارد سعيد إلى سمير أمين.. هل يمكن حقاً أن نقضي على الاستعمار؟
سمير أمين – ويكيبيديا

فسنرى كيف أن العولمة تعزز حرية حركة رؤوس الأموال من خلال تشجيع إزالة الحدود الوطنية، مما يسمح للطبقات الرأسمالية بتعزيز أرباحها فيما تعرض الطبقة العاملة لمنافسة شديدة، وظروف عمل متدهورة، ومعدلات بطالة مرتفعة.

يطرح سمير أمين في هذا السياق أن عصر العولمة قد تم إطلاقه بدعوة لإنشاء نظام ليبرالي جديد يقوم على هيمنة رأس المال المطلقة، متجاهلًا بسهولة الجوانب الاجتماعية والإنسانية للتنمية الاقتصادية. تحت هذا الغطاء، تتطور الممارسات القديمة مثل تجارة العبيد، الاستعمار، والأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة على الفصل العنصري، لكن في ثوب جديد على شكل برامج مثل العمالة الوافدة وسياسات الهجرة الانتقائية، مثل منح تصاريح الجنسية والإقامة في الدول الغنية.

يؤكد لنا أمين و بدقة أن النظام الرأسمالي لم يكن مجرد نتاج للتطورات الداخلية الأوروبية ومزاعم العقلانية والتنوير فحسب، بل كان مدعومًا ومعززًا بشكل كبير عبر استغلال الموارد والأفراد في العالم الشرقي والجنوبي. لم يقتصر هذا الاستغلال على الجانب الجسدي فقط، بل شمل أيضًا الاستغلال الاقتصادي، حيث استُخدمت الثروات المستخرجة لتعزيز نموذج الرأسمالية المعتمد على التراكم المستمر للرأسمال إلى اليوم.

ولا يتركنا أمين عند التحليل والتفكيك، بل يقدم لنا حلولاً، إذ قدّم مفهوم "فك الارتباط" في كتابه "فك الارتباط.. نحو عالم متعدد المراكز" (Delinking: Towards a Polycentric World) الذي نشر عام 1985، حيث يستهدف من خلال ذلك المفهوم -المتأصل في نظرية التبعية- شرح وتفسير الفوارق الاقتصادية بين دول المركز والأطراف داخل النظام الرأسمالي العالمي.

ويرى أمين "فك الارتباط" كاستراتيجية لتحويل العلاقات الاقتصادية بين دول الأطراف والمركز. إذ لا يهدف فك الارتباط إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي فحسب، بل يفتح الباب أمام تنمية ذاتية محورة داخل دول الأطراف. إذ يسعى هذا المفهوم إلى تقديم الأولوية للاحتياجات المحلية على المنطق العالمي، مع التركيز على تطبيق سياسات تعيد توزيع موازين القوى بعيدًا عن المراكز العالمية. هذا يعني تطوير استراتيجيات التنمية الوطنية بشكل مستقل عن القيود التي تفرضها الرأسمالية العالمية.

بالنسبة لدول الجنوب، يعني فك الارتباط تطوير أنظمة إنتاج مستقلة وتبني سياسات تعطي الأولوية لاحتياجات السكان المحليين. يستلزم هذا النهج استثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية وتنفيذ خطوات حاسمة لتحسين نوعية الحياة، بدلاً من التركيز على الاستهلاك القصير الأجل وتعظيم الأرباح. "فك الارتباط" يمثل نهجًا استراتيجيًا ضروريًا لدول الجنوب لتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية بشكل مستدام.

بالعودة إلى تأثير إدوارد سعيد، نجد أن ظهور انتفاضة طلاب الجامعات الغربية دعمًا لغزة ليس بالأمر الغريب؛ إذ إن بجانب فظائع الحرب التي حركت العالم، كانت قد بدأت تتعالى الدعوات لـ"إنهاء استعمار الجامعة" بشكل متزايد في جامعات الشمال العالمي. إذ بد العديد من الأكاديميين نقد التصوير العنصري والمركزية الأوروبية في المناهج والخطاب الأكاديمي، مستندين في ذلك إلى عمل سعيد "الاستشراق". بالتوازي مع ذلك، تأتي أعمال سمير أمين والتزامه بالعلوم الاجتماعية المتمحورة حول الجنوب لترسم لنا طريقاً عمليًا ومؤسسيًا قد يعزز هذه الجهود. فتحليلات أمين حول كيفية تشكيل الموروثات الاستعمارية للهياكل الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تقدم إسهامات قيمة لبناء مشاريع تفكك الاستعمار بشكل فعال، وتعمق الوعي الجمعي بضرورة إنهاء استعمار، مما يمكن أن يؤدي إلى تحول أعمق وأشمل على المدى البعيد.

إن تحدي المركزية الأوروبية ومواجهة التصورات الاستعمارية ليس مجرد مسألة أكاديمية، بل هو جهد حيوي لتحقيق واقع أكثر عدالة، فمن خلال استخدام التجارب التاريخية والموارد الجغرافية، يمكن لدول الجنوب أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز بناء عالم أكثر توازنًا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مؤمن أشرف
طالب الماجستير في الإدارة والتكنولوجيا وباحث في سياسات العلوم والتكنولوجيا بجامعه ميونخ التقنية
تحميل المزيد