مع دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره العاشر، شكلّت عملية استهداف ميناء الحديدة في اليمن، رداً على إطلاق مسيّرة تجاه مدينة تل أبيب في 20 يوليو/تموز 2024، التي أطلق عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي اسم "اليد الطويلة"، نقطة تحول دراماتيكية في الديناميكيات السياسية والعسكرية. إذ تثير التطورات والأحداث المتسارعة التي تبعت هذه العملية تساؤلات حول مسار حرب غزة ومعادلات الصراع الإقليمي في المنطقة؟.
فقد جاءت هذه العملية في سياق تحضيرات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لزيارة واشنطن، والتي رافقه فيها ممثلون عن عائلات الأسرى الإسرائيليين. حيث سعى نتنياهو من خلال هذه العملية إلى استعراض القوة وإظهار التزام الاحتلال بالتصدي لأي تهديدات لأمنه وللمصالح الأمريكية في المنطقة، ومحاولة منه لتعزيز صورته، في مواجهة الانتقادات والضغوط الداخلية المتزايدة.
في خضم الحرب الوحشية الإسرائيلية المستمرة ضد قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يظهر التباين بين الخطاب الإعلامي والسياسات الفعلية بشكل أكثر وضوحاً. فعلى الرغم من أن الإعلام قد يسلط الضوء على الخلافات بين الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي كوسيلة لإظهار نوع من التوازن أو الاستقلالية في السياسة الأمريكية، إلا الواقع يظهر أن هذه الخلافات غالباً ما تكون سطحية ومؤقتة.
إذ تتبنّى الولايات المتحدة على المستوى الاستراتيجي، رؤية طويلة الأمد تقوم على الحفاظ على التفوق العسكري للاحتلال الإسرائيلي في المنطقة كجزء من سياستها لتعزيز الاستقرار الإقليمي (وفق رؤيتها) وحماية مصالحها في الشرق الأوسط. هذا يعني استمرار تقديم الدعم العسكري غير المشروط، بما في ذلك المساعدات المالية والتكنولوجية، والدعم الدبلوماسي المكثف الذي يشمل استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية الاحتلال الإسرائيلي تحت أي ظرف من القرارات الدولية التي قد تكون ضده.
إن السياسات الميكافيلية لنتنياهو، قد تكون مصدر إزعاج لبعض صناع القرار في واشنطن، لكن هذه السياسات لا تغير من الأساس الراسخ للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية. بل في كثير من الأحيان، تستخدم الولايات المتحدة هذه السياسات كأداة لتبرير زيادة الدعم والتعاون مع إسرائيل بدعوى حماية أمنها القومي.
تلعب التوجهات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة أيضاً دوراً مهماً في هذا السياق، فاللوبيات المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي، مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية – ايباك (AIPAC)، تتمتع بنفوذ كبير في تشكيل السياسة الأمريكية تجاه الاحتلال. هذا النفوذ يتجلى في التشريعات والمساعدات السنوية التي تُقدَّم للاحتلال الإسرائيلي، والتي غالباً ما تحصل على دعم ساحق من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس. وخلاصة الحديث في هذا السياق، أنه على الرغم من الخلافات الظاهرية التي قد تطرأ بين الفينة والأخرى، تظل العلاقة بين الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي قوية ومتينة، إذ تستمر واشنطن في توفير جميع أشكال الدعم للاحتلال، بغض النظر عن السياسات أو القادة الذين يتولون السلطة في تل أبيب.
يسعى نتنياهو دائماً إلى تأمين دعم أمريكي قوي في مواجهة التهديدات الإقليمية، خصوصاً التهديد الإيراني وأذرعها في المنطقة، حيث تقوم السياسة الإسرائيلية على تصوير إيران كتهديد وجودي ليس فقط للاحتلال، بل لاستقرار المنطقة ككل، مما يضمن استمرار الدعم الأمريكي.
فتح وقوع حادثة مجدل شمس بالتزامن مع وجود نتنياهو في واشنطن الباب أمام تكهنات حول إمكانية أن يكون هذا الحادث قد دُبِّر لتحقيق أهداف سياسية معينة، مثل تعزيز الضغط على الولايات المتحدة لمواصلة الدعم اللامحدود للاحتلال في وجه التهديدات الإيرانية، وتجنب إحراج الاحتلال الإسرائيلي في حالة تنفيذ الحوثيين تهديداتهم. وبغض النظر عن الاحتمالات والسيناريوهات المرتبطة بحادثة مجدل شمس، فإن نتنياهو استخدم هذا الحدث المأساوي لتعزيز أهدافه السياسية والاستراتيجية، إذ تبقى أولويته تأمين الدعم الأمريكي المستمر، وتوظيف كل الأدوات المتاحة لتحقيق هذا الهدف.
فبعد عودة نتنياهو من واشنطن، اغتالت اسرائيل في 30 تموز/ يوليو 2024، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، بالتزامن مع اغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري في حزب الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت. ولا يمكن أن يكون نتنياهو قد نفذ اغتيالات من هذا النوع بدون ضوء أخضر أمريكي.
تُدلّل هذه الإغتيالات المتزامنة لقيادات المقاومة على تعاون استخباراتي على مستوى عالٍ مع القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، والهدف منها هو تحقيق نصر معنوي للاحتلال في ظل عجزه عن تحقيق أهدافها المعلنة في الحرب على غزة، إلى جانب استخدامها من قبل نتنياهو لتعزيز موقفه الداخلي وإظهار قوة حكومته. ويأتي تأكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد هذه الاغتيالات على "التزامه بأمن إسرائيل ضد جميع التهديدات من إيران، بما في ذلك الجماعات الإرهابية بالوكالة حماس وحزب الله والحوثيين"، شاهداً على أن الاغتيالات لم تتم دون ضوء أخضر أمريكي.
تعكس الأحداث المتسارعة مرحلة جديدة من التصعيد في الصراع الإقليمي، حيث يسعى الاحتلال إلى تحقيق نصر معنوي واستراتيجي من خلال استهداف قادة المقاومة، مستفيدة من الدعم الأمريكي. في المقابل، تظل المنطقة على شفا تصعيد أكبر في ظل تهديدات الرد الإيراني، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي.
بالتزامن مع هذه الأحداث، تم إبرام أكبر صفقة تبادل أسرى بين الغرب وروسيا برعاية تركيا في الأول من أغسطس/آب 2024. فيما يبدو أن بايدن يستغل هذه الصفقة لتعزيز موقف حزبه الديمقراطي، ومرشحته كاميلا هاريس في الانتخابات الرئاسية. وفي نفس الوقت تسعى إدارة بايدن إلى ضبط إيقاع الحرب من خلال إبرام هذه الصفقة مع روسيا، حليفة إيران، ويبقى شكل وحجم الرد الإيراني على الاحتلال الإسرائيلي هو العامل الحاسم في تحديد مسار المفاوضات والحرب في غزة.
ستواجه مفاوضات غزة حالة من الجمود بسبب الانتشاء الذي يشعر به نتنياهو وحكومته عقب الاغتيالات الأخيرة، مما قد يجعلهم أكثر تصلباً في مواقفهم ويطرحون شروطاً تعجيزية. هذا الوضع سيعوق أي تقدم في المفاوضات ويزيد من تعقيد الأمور.لذلك، ربما سيكون الرد الإيراني حاسماً في تحديد مسار المفاوضات المقبلة، حيث أن رد فعل قوي من إيران قد يؤدي إلى تصعيد كبير، بينما رد محدود قد يفتح المجال لجهود دبلوماسية جديدة، بمعنى أن احتمالات نجاح المفاوضات تبقى مرتبطة بشكل كبير بالتحركات الإيرانية والأحداث الإقليمية المتسارعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.