لم يكن خبر اغتيال القيادي الأبرز في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ورئيس مكتبها السياسي "إسماعيل هنية"، في يوم الأربعاء ٣١ يوليو ٢٠٢٤، مفاجئًا كثيرًا بعد أن وضعت إسرائيل من ضمن أهدافها بعد ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣ القضاء على حماس واستهداف قياداتها، ولكن المفاجأة كانت، بالنسبة للكثيرين، هو موقع الاغتيال في قلب العاصمة الإيرانية طهران، بعد ساعات من حضوره -هنية- لحفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان.
ولأن إيران تعتبر الراعي الأهم والأول لما يسمى بمحور المقاومة، فبلا شك يعتبر الاغتيال تحديًا كبيرًا من إسرائيل لطهران وحكومتها الجديدة وكيفية إدارتها ودعمها لمحور المقاومة، بغض النظر عن الأصوات التويترية، المعارضة لطهران، التي تقول بأن النظام الإيراني هو من تسبب في اغتيال هنية، بأشكال ما.
ولكي نضع عملية الاغتيال ونفهم تبعاتها في سياقها الصحيح، لا بد من عودة إلى الوراء، إلى يوم ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣، حين نفذت حركة حماس عملية طوفان الأقصى وتقدمت باتجاه مستوطنات غلاف غزة وقتلت وأسرت المئات من الجنود والمدنيين الإسرائيليين ردًا على "الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى المُبارك واعتداء المستوطنين الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين في القُدس والضّفة والدّاخل المُحتل"، فحتى هذا التاريخ، لم تواجه إسرائيل تحديات وجودية خطيرة منذ حرب ١٩٧٣، بينها وبين مصر، بل استطاعت أن تحقق غاياتها السياسية-العسكرية في الوطن العربي، باتفاقيات سلام بينها وبين كل من مصر والأردن وما تسمى بالسلطة الفلسطينية، ونجحت في تطبيع علاقاتها مع دول خليجية/عربية مثل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وكانت على وشك إعلان تطبيع علاقاتها مع المملكة السعودية، وبالنسبة للعالم، فلم تكن فلسطين وقضيتها محور حديث وسائل الإعلام الغربية مطلقًا، وكذلك بالطبع العربية. ولكن بعد هذه العملية الطوفانية، تعرض كل ما بنته وحاربت من أجله إسرائيل، منذ عام ١٩٤٨، إلى تهديدات وجودية حقيقية، من حيث لم تحتسب ولم تتوقع، وهذا كالتالي:
– سقطت أسطورة أن إسرائيل تعتبر الوطن الآمن لكل اليهود في العالم.
– وسقطت أسطورة أن الجيش الإسرائيلي جيش لا يقهر.
– وسقطت أسطورة أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية (الموساد، الشاباك)، هي الأقوى في العالم.
– وسقطت أيضًا إمكانيات وأحلام وخيالات وفرص التطبيع مع كل النظم السياسية والشعوب العربية والشرق أوسطية، وصارت القضية الفلسطينية هي الشغل الشاغل للعالم، وبالذات في قلوب عواصم غربية لطالما دعمت سياسات حكوماتها إسرائيل بأشكال لا حدود لها. وكذلك مرة أخرى، أظهرت الشعوب العربية والإسلامية أن عدوها الأول هي دولة ما تسمى بإسرائيل، وكشفت الفجوة العميقة بينها وبين النظم السياسية التي تحكمها.
– والأهم، كشفت إسرائيل أن وجودها مرتبط جذريًا -كما في السابق مع حروبها ضد الدول العربية- بالدفاع الأمريكي اللامحدود عنها. وهي أداة من أدوات تلاعب أمريكا بالشرق الأوسط لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
باختصار شديد، يمكن أن يقال: استطاعت عملية طوفان الأقصى أن تضرب في العمق استراتيجية الردع الإسرائيلية وتُعرِّضها للتآكل والانهيار، التي لطالما مثلت لها فزاعة تُرعب بها دول جوارها العربي أو الشرق أوسطي. ومن هنا، ومنذ يوم السبت السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، أصيبت إسرائيل بجنون في عقلها الاستراتيجي والسياسي، فصارت تمارس أبشع أنواع الحروب ضد قطاع غزة، وتفتك بالمدنيين، ولا تبالي بفتح جبهات قتال جديدة مع ما يسمى بمحور المقاومة. وكل هذا لكي تعيد لنفسها هيبتها في العالم عامة، والشرق الأوسط والعالم العربي خاصة.
ومن هنا أيضًا، في هذا السياق، يمكن أن نضع عمليات الاغتيال التي تقوم بها إسرائيل، سواء ضد قيادات حزب الله اللبناني، أو قيادات حماس، أو قيادات الميليشيات وما تسمى بفصائل المقاومة العراقية، أو قيادات الحرس الثوري الإيراني.
تدرك إسرائيل جيدا أن النظم السياسية الاستبدادية العربية وغير العربية المحيطة بها، والتي تقف ضد حركة المقاومة الفلسطينية، يمكن أن تثور عليها شعوبها في يوم ما وتتبدل بأخرى تناهضها، ثم تفكر بالانتقام منها، وحتى إزالتها من الوجود كونها دولة أُسست على أرض لا تمتلكها ووسط جيران لا يتقبلون وجودها. وتدرك أيضا أن النظم السياسية الحليفة لها هذه، وإن لم تفعل شيئا ذا أثر لردعها من القيام بارتكاب جريمة الإبادة ضد سكان غزة بهدف تهجيرهم منها، فإنها كشَفت عن نقاط الضعف في استراتيجيتها للدفاع عن أمنها القومي. ومن هنا ستفعل إسرائيل كل ما يمكن فعله، بإعطاء الضوء الأخضر لها من قبل والدتها أمريكا، لاستعادة هيبة استراتيجية الردع الإسرائيلية، والاغتيالات جزء من عمليات استعادة الهيبة كما تعتقد.
وكلما كانت الشخصيات التي تغتالها إسرائيل من الصفوة ضمن حركات المقاومة، ستشعر بأنها ستعيد لدولتها مجدها وهيبتها.
فهل ستكون تبعات عمليات الاغتيال على محور المقاومة هي المزيد من التصعيد ضد إسرائيل؟
الشهور الماضية من الحرب ضد قطاع غزة كشفت لنا أن لا إيران تريد خوض حرب مباشرة ضد إسرائيل، ولا هذه الأخيرة تريد فعل ذلك، لأن أمريكا لا تريد، وينجح الطرفان دائما في انخفاض حدة التصعيد، عندما تتأزم وتتفاقم، بينهما.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.