صدمت صبيحة يوم الأربعاء 31 يوليو 2024 بخبر استشهاد القائد إسماعيل هنية لدرجة أنني مررت بفترة ليست قصيرة أحاول إقناع نفسي أن الخبر كاذب وأن العدو وأذنابه هم من يسوقونه في إطار حربهم النفسية ولهم في ذلك باع كبير آخرها إعلانهم استشهاد القائد العام للمجاهدين.
لكن مع استحضاري لطبيعة الثورات وجسامة التضحيات التي يقدمها المجاهدون لتحرير أوطانهم وشعوبهم، استعدت توازني دون أن أستطيع التغلب على مشاعري كإنسان بحزني وحسرتي على فقدانه غيلةً في ليلة ظلماء، إلا بعد مراجعتي لمواقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – عند استشهاد أصحابه أو عند فقده لأبنائه. وهكذا تحولت فاجعة استشهاده إلى إشارة أمل نحو اقترابنا من النصر وخاصة عندما أتذكر تعليقه على استشهاد أفراد أسرته أو عند استشهاد إخوانه، فالرجل خلق ليعيش حراً، وهو على يقين أن الشهادة تتربص به في كل حين، فهنيئاً له ما سعى إليه وليرحمه الله وليكتب له الشهادة التي عاش من أجلها ولتكن تضحيته خطوة جديدة نحو الحرية، آمين.
لكن الكارثة التي لم أجد لها تفسيراً هي الانتشار الأفقي لثقافة التضليل والتجهيل لدى بعض العامة من الناس، ولم أكن أتوقع وجود بشر ينحطون إلى هذا المستوى من التفكير. فإذا كان من الطبيعي أن يجتهد المستبد لتخدير الناس والتغرير بهم فمصالحه واستمراره محققان عبر ذلك، وإن أصبح مستساغًا أن يتجنَّد لذلك حراس المعبد من مدعي العلم بالدين أو من كهنة دكاكين الإعلام، لأنهم يقتاتون من فتات أسيادهم، فالذي يذهب عقلك ويخرجك عن طورك أن تجد فقيراً معدمًا لا يُركِّب جملة مفيدة ولا يفرِّق يده اليمنى عن اليسرى يردد طروحاتهم ويتحدث بثقة غريبة بالسوء عن المقاومة ورجالاتها معتقداً أن هذا ما يضمن له الجنة، وهذا ما سجلته صبيحة اليوم وزاد من حسرتي. فبعد إطلاعي على خبر استشهاد أبي العبد هجرني النوم (في العادة أعود إلى النوم بعد الصلاة) فخرجت قاصداً أقرب مقهى من بيتي فوجدته تقريبًا خالياً إلا من العامل (القهواجي) وزبون آخر وكان التلفاز مشغلاً على قناة الجزيرة التي تبث باستمرار خبر استشهاد بطلنا وردود الأفعال المختلفة، عندها دخل أحدهم يظهر من هيئته أنه من جماعة "الجهاد بالسنن"، فبادره العامل وهو يبتسم : يا فلان لقد "قتلوا لهم قائدهم…! " فرد الشيخ الوقور: ومن هو؟! ثم علق بصوت خافت مستغرباً كيف يغتالونه وهو معهم؟! فردد القهواجي مبتسمًا: قتلوه، قتلوه.
عندها التفتُّ إليهما ونظرت إلى العامل مستغرباً، فكأنه انتبه لوجودي وتوقف عن الكلام وأشار إلى صاحبه بذلك، لحظتها خطرت ببالي أفكار كثيرة وهممت بمخاطبتهما بلغة وظيفية يقتضيها الموقف، ثم تراجعت لقناعتي أنهم ضحايا وجهلة ومن العبث مخاطبتهم.
خرجت من المقهى دون اقتناء أي شيء لكني لم أنسَ كلامهم الفج الذي يُفهَم منه أن الشهيد غريب ولا يمثِّلهم والأخطر يظهر أنه سعيد لموته، ولم أكن أتصور أن التضليل والتجهيل وصل إلى هذا الحد. فها هي ثورتنا المباركة برغم الأمية، الجهل والخيانة فإن ولاء الناس كان واضحاً، وكان على أساس الدين فكانوا يعتبرون الخائن خارجاً عن الملة. فكيف لمن طالع منشورات الفرقة التي تتألى على الله وتدعي ضمانها الجنة لأفرادها دون غيرهم أن يجاهر بعدائه لإخوانه من المسلمين ويسعد لقتلهم ويدعم عدوهم بالدعاية المضادة وبتثبيط الناس! فأي بؤس هذا الذي نعيشه يا رب؟!
لكن أقول لهؤلاء المساكين ولأسيادهم إن الشهيد وإخوانه هم شرف الأمة وطريق عزها بإذن الله، وإن طريق الحرية الذي لا تعرفونه، ولن تعرفوه ولا يمكنكم حتى تخيله لا يخوضه إلا الأحرار، والعبيد أمثالكم من طَبْعهم قبول الدَنِيَّة وأكل السحت ولا ينتظر منهم إلا الخنوع لأسيادهم وبيع إخوانهم وشرف أوطانهم.
وأقول للأحرار لا تهنوا ولا تحزنوا فالسير في طريق الحرية كلفته باهظة، وكلما دفعنا الثمن المطلوب اقتربنا من هدفنا ولكم في ثورة التحرير المثل، فأغلب مفجري ثورة التحرير استشهدوا في بداياتها، وعمل الاستعمار الفرنسي حينها على استهدافهم ومحاولة استغلال استشهادهم لقتل عزائم الناس وكسر الحاضنة الشعبية للثورة، لكن بفضل القيادة الجماعية وبتوفيق من الله تجاوزت الثورة فقدان قادتها واستمرت حتى النصر لأن فكرة التحرر تغلغلت وجبرت ألم فقد الأحبة، وهذا ما نسجله على ثورة إخواننا في فلسطين، فغزة العزة ستنتصر بإذن الله وقد اقتنع بذلك العدو والموت للخونة الجبناء.
أما إخواننا في الداخل الفلسطيني فسأذكر لهم محطة مهمة من ثورتنا تكون لهم نقطة نور في مسارهم نحو الحرية، فعند بداية ثورة التحرير في نوفمبر 1954، استشهد بخيانة مدبرة مهندس الثورة العقيد مصطفى بن بولعيد وحاصرت فرنسا منطقة الأوراس بهدف القضاء على الثورة في مهدها، فجاءت النجدة بهجومات الشمال القسنطيني التي أنقذت الثورة وضمنت انتشارها واستمرارها ثم انتصارها، فَكونوا في مستوى إخوانكم وانتفضوا يا أهلنا في الضفة ودوسوا بأقدامكم على جماجم خونة أوسلو ومن يدعمهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.