يعدونهم بعمل وسكن ثم يتركونهم مشرَّدين في شوارع إسطنبول! عن ظاهرة النصب الجديدة على المصريين

عربي بوست
تم النشر: 2024/08/02 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/08/02 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية لشوارع اسطبنول/shutterstock

"معلش همشي والفراق محتوم يا بلدي، لأجل أبويا لأجل أمي لأجل اللي همَّ فرقبتي، لأجل ولدي ما يتستر، ولا أسيبش نفسي تقولي يا له انتحر. مش مهم إني انتهي مش مهم إني بفراقك اتقهر!" ذلك هو حالهم فلا حكومة نصفتهم ولا شركات بيع الوهم جبرت خواطرهم.

لا تكاد تمر علينا بضعة شهور إلا بمعاناة جديدة لا يختلف فيها إلا أسماء الحالمين بالحياة وأعمارهم من ضحايا تجار البشر مُسَوِّقي السراب في نفوس من لا حيلة لهم ولا طاقة لتحمل مزيد من الضغوط المادية المركَّبة في بلدنا مصر في ظل انشغال السلطات بالتسويق لمصر الجديدة المتطورة إعلامياً! 

بعد فترة وجيزة من التعافي من الآثار النفسية الصعبة التي عانيت منها جراء متابعة ملف هجرة غير شرعية لأكثر من 20 طفل مصري تتراوح أعمارهم من 14 إلى 17 عاماً سلمتهم أسرهم بطيب خاطر إلى المخاطر قاصدين أوروبا حيث الحياة الكريمة والدخل العادل المحرومين منه طيلة حياتهم في موطن الخيرات، أبصرت عند دخولي أحد المقاهي في منطقة باشاك شهير بإسطنبول وجهاً مصرياً خالِصاً بدا عليه الإرهاق والهم وجسداً ضعيفاً أنهكه الفكر والفقر. 

اندهشت لوجوده في هذه المنطقة لثوانٍ كونها خارج النطاق الجغرافي الذي يتردد عليه الكادحون من المصريين القادمين إلى تركيا بحثاً عن لقمة العيش وفي مقدمة تلك المناطق شيرين افلار – أطلق عليها شبين افلار لكثافة الوجود المصري فيها – ولكنني سرعان ما فسرت تواجده بأنه ربما التحق بعمل جديد في المنطقة أو أنه في زيارة لصديق له يعمل في المنطقة.

لم يمر وقت طويل على جلوسي في المقهى حتى صاح بصوته صراخاً يتجاوز في قوته جسده الضعيف وبشكل مخيف لكل من حوله متحدثاً مع أحدهم هاتفياً وصب عليه كل أصناف السباب المصري صبًّا وفهمت من حديثه أنه يتحدثُ مع السمسار الذي جاء به إلى تركيا ويحمله مسؤولية هذا الموقف وأنه لن يتركه حتى آخر عمره إذا لم يوفر له عملاً وسكناً مناسبَيْن. 

ووجدتني وسط هذه الوصلة من السباب أتوجه إليه بإشارة من اليد أدعوه فيها بالهدوء والاستعانة بالله فاستجاب نسبياً بخفض الصوت وبعد انتهاء المكالمة انتقلتُ إلى جواره للتخفيف عنه ومساعدته إذا كان في مقدوري. تعرفنا سريعاً وبدأ يقص لي جانباً من معاناته.

الرجل البورسعيدي الذي يبلغ من العمر 57 عاماً رب أسرة يسعى على رزق أفرادها بتجرد. جاء بوعود العمل المناسب والسكن الإنساني ولكنه وجد واقعًا لا يمت للإنسانية في شيء وجد نفسه في مصنع بعيد عن العمران لا تتوقف فيه الأتربة وعوادم الماكينات عن الحركة ومناطحة الهواء، لا توجد كمامة تدرأ عنه خطورة هذا التلوث المنبعث بفيض من آلةٍ صلبة تمتلكها آلةُ في ظاهرها بشر! 

مع نهاية أول يوم عمل تحمَّله وكان على استعداد للاستمرار فيه ما دامت قواه بين يديه، توجه سائلاً عن مكان نومه فُصعق من شكل المرتبة الإسفنجية المتهالكة الممتلئة بالغبار وعوادم الماكينات في نفس مكان العمل والتي أبصرتها عيناه أثناء العمل وظن أنها قمامة ولم يتخيل أنها سريره! وعلى الفور غادر المكان وانطلق في رحلة الأعمى الغريب بلا لسان أو رفيق أو قريب. وسط الظلام الدامس باحثاً عن العمران وكأنه مهاجر غير شرعي يسعى بين حدود دولتين بحثاً عن الأمل في الحياة! 

وبعد ثلاثة أسابيع من هذه الواقعة بدأت ألاحظ وجوهاً كثيرة كوجه البورسعيدي في ميدان شيرين إيفلار والشوارع المحيطة به ليسوا فرادى بل مجموعات بجوار كل منها أكوام من الحقائب. بدأت التقصي في الأمر بمزيد من القلق وعرفت من بعض الأصدقاء العاملين في مجال الشحن أن هناك موجة نصب واحتيال تقوم بها مجموعة من معدومي الضمير وتأتي بالمصريين كباراً وصغاراً أصحاء وآخرين استقوى عليهم المرض أصحاب حرفة أو بلا صنعة إلى تركيا بوعود التشغيل بمقابل مادي مناسب وسكن كريم. 

وبحسب الأصدقاء فإن هذه الموجة استمرت لما يقرب من شهرين وبشكل شبه يومي يصل إلى تركيا 50-60 مصرياً بنفس الوعود مقابل 65-75 ألف جنيه على الشخص! وكثير من هؤلاء لا يملك حتى ثمن تذكرة العودة إلى الوطن ووجدوا أنفسهم في الشوارع لأيام ولا يعلم أحد إلى متى سيظل في الشارع وحقيبته بجواره وسط موجة الحر الشديدة التي تضرب إسطنبول، يقضي حاجته في حمامات المساجد ويتردد كثيراً عندما يشعر بضرورة تغيير ملابسه فإذا وجد في المساجد ملجأ لتغييرها فما السبيل إذن لغسلها وهو يسكن في الشارع! 

صورة من إحدى المحادثات الشخصية بين أحد الضحايا وأحد الأفراد الذي احتالوا عليه!

الغربة مهما فاضت بالخير وفتحت أبواب نعيمها تظل في حد ذاتها تربة لا يقصدها عاقل إلا إذا دعته الضرورات فما الحال مع تلك المشاهد التي صنعتها نفوس شريرة لا تعرف أي قيمة ولم تنل ذرة من الأخلاق أو الإنسانية تأتي بالعشرات إلى المجهول وترميهم في شوارع بلاد غريبة فقط لكسب المال الحرام، الملعون في كل الكتب والأعراف مهما دام. 

وأخيراً أود أن أتوجه بحديثي إلى الحكومة المصرية وأصحاب القرار في بلادنا أين مصر التي يُسوَّقُ لها في الإعلام على الصعيد الأمني من هذه العصابات الإجرامية التي تستبيح مواطنيها وترميهم في الغربة مشردين؟ أين مصر النهضة الاقتصادية والنجاحات الخزعبلية على أرض الواقع ولماذا لم يجد هؤلاء الضحايا نصيبًا يرضيهم ويستر أسرهم ويقيهم شر السراب والغربة؟ إلى متى سيظل الأمل مفقودًا بهذا الشكل في نفوس أبنائنا لدرجة تدفعهم للمخاطرة بحياتهم فقط للوصول إلى بلاد غريبة على أمل أن يعمل ُوا بلا إذن ليحصل على مقابل مالي يسترُ به أهله؟ 

" ليه وردك يا بلدي النقاوة اللي يفرح في أرضه بيدبل وعايز يسافر يزهزه ويطرح؟"

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حسين صالح عمار
محامٍ وباحث قانوني
حسين صالح عمار محامٍ وباحث قانوني سابق بوزارة التنمية المحلية، وباحث حقوقي ومساعد باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة أوكسفورد، وعضو مجلس إدارة مستشفى كرداسة الحكومي وعضو فريق تنسق برنامج مساعدة اللاجئين (صوي) بتركيا
تحميل المزيد