من الواضح جداً أن اعتراف فرنسا بمخطط الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية الجنوبية تحت السيادة المغربية كحل واقعي وجاد لإنهاء الصراع الدائر بينه وبين جبهة البوليساريو المدعومة من طرف الجزائر، قد أزال الغطاء عن موقف فرنسا من النزاع السياسي المفتعل حول الصحراء، وأخرجها من المنطقة الرمادية التي أثارها العاهل المغربي في أحد خطبه بمناسبة الذكرى 69 لثورة الملك والشعب، والذي وجه فيه رسالة قوية بصريح العبارة لكل شركائه للخروج من المنطقة الرمادية حول مغربية الصحراء، وبذلك تؤكد فرنسا بموقفها هذا مغربية الصحراء، بدليل أن لا خيار لإنهاء الصراع الدائر حول الصحراء إلا باعتماد مخطط الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية، وهو ما أكدته رسالة باريس يوم 30 يوليوز 2024، الذي يصادف يوم احتفال المغرب بمرور ربع قرن على تربع العاهل المغربي على عرش الملكية المغربية.
وكان من جانب الجزائر قد عبرت عن غضبها شديد اللهجة السياسية والدبلوماسية تجاه قرار فرنسا على خلفية هذا القرار، بعد أن أبلغتها هذه الأخيرة بأيام بموقفها من مخطط الحكم الذاتي المغربي، الأمر الذي حمل الجزائر إلى إصدار بيان احتجاجا على باريس تقف فيه موقف الرفض المطلق لما صدر عن باريس.
موقف باريس وخروجها من المنطقة الرمادية:
ففي هذا الإطار لا يمكن فهم الموقف الفرنسي في هذه الظرفية بالذات إلا بالرجوع إلى ما سبق من إشارات من طرف الحكومة الفرنسية وبعض من مسؤولين نافذين في أجهزة الدولة، خلال السنوات الأخيرة، فقد عرفت العلاقات الفرنسية المغربية بعض التوتر، وبعدها سيحدث انفراج سياسي ودبلوماسي في العلاقات البينية، وهو ما أسفر عن زيارات متبادلة بين مسؤولين لحكومتي البلدين.
ومن جهة ما، ما كان لفرنسا أن تتمادى في موقفها الرمادي الذي قد يعزلها عن شراكات استراتيجية هامة بينها وبين المغرب، ونظرا لوقع الدبلوماسية المغربية المتميز في علاقاتها مع العديد من البلدان، داخل المجال الإفريقي والأوروبي والدولي، الذي شكل نقطة قوة للمزيد من تعزيز ودفع العلاقات الفرنسية المغربية إلى الأمام، بالمقابل انحسار الدبلوماسية الجزائرية وتقوقعها داخل دائرة ضيقة جداً، دون خلق فسحة تتنفس فيها المنطقة المغاربية الصعداء في علاقتها بملف الصحراء، وبقائها متمترسة خلف موقف من شأنه أن يطيل الصراع ويعدم التفاهمات السياسية، ويدعو إلى الانفصال والطعن في مغربية الأقاليم الجنوبية للمغرب، فقد بات من الضروري لفرنسا أن تعلن عن موقفها من مبادرة المغرب مثلها مثل العديد من الدول الداعمة لمشروع الحكم الذاتي المقترح من قبل المغرب كحل نهائي وجاد، خاصة بعد موقف إسبانيا الإيجابي باعترافها الصريح بمخطط الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية المغربية ، لاعتبار ارتباطهما التاريخي بدول المنطقة من خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية الإسبانية، علاوة على العديد من حلفائهما الغربيين الذين تقاسموا وجهة النظر الأحادية بخصوص الحكم الذاتي المقترح من جانب المغرب تحت السيادة المغربية، وهو ما أعرب عنه ماكرون في رسالته أن "توافقا دوليا يتبلور اليوم ويتسع نطاقه أكثر فأكثر"، مؤكدا أن "فرنسا تضطلع بدورها كاملا في جميع الهيئات المعنية"، وخاصة من خلال دعم بلاده لجهود الأمين العام للأمم المتحدة ولمبعوثه الشخصي. والذي يؤشر بقوة على إنهاء النزاع المفتعل على صحرائه الجنوبية، ويعتبر الإطار الأمثل لكل ساكنة الأقاليم الجنوبية المغربية يهدف إلى استقرار المنطقة المغاربية وأمن كل شعوبها ورفاهيتها وتعزيز أواصرها وروابطها التاريخية والحضارية، بدل السقوط في بؤر التوترات والنزاعات وفوات الأوان أمام شعوب لديها من الإمكانات ما يجعلها في مصاف الشعوب المتقدمة والمتطورة والرائدة في مجالات التنمية الحضارية عموماً.
فقد أكدت فرنسا على أهمية موقفها لعدة اعتبارات تتوخى منها الرهان على حزمة من المصالح الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، وما كان للمغرب من جهود تنموية في الأقاليم الجنوبية، فقد بصم آثاره في توجيه بوصلة توجهات فرنسا السياسية والدبلوماسية، مما دفعها بقوة إلى اتخاذ قرارها هذا، وهو ما أكدته رسالة ماكرون تنويها بجهود المغرب من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد أعرب بأن "تواكب فرنسا المغرب في هذه الخطوات لفائدة الساكنة المحلية".، مشيدة بمخطط الحكم الذاتي، كما جاء في الرسالة ف "دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في 2007 واضح وثابت"، وأنه "يشكل، من الآن فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".
غضب الجزائر من قرار فرنسا باعترافها بمخطط الحكم الذاتي المغربي:
قرار الموقف الفرنسي هذا قد أغضب النظام الجزائري مما جعل الخارجية الجزائرية تصدر بيانا تستنكر فيه الموقف الفرنسي الداعم لمخطط الحكم الذاتي المغربي، وتعتبره قرارا " غير منتظر، وغير موفق وغير مجد"، ويكرس استعمارا للمنطقة الجنوبية من قبل المغرب، وأنه ينافي الجهود الدولية لإيجاد حل للنزاع … وبهذا البيان تكون الجزائر قد نصبت نفسها طرفا رئيسيا في النزاع، وليس طرفا محايدا يحاول أن يحتضن مشاريع حلول لأطول نزاع في القارة الإفريقية، وإنهائه على خلفية ما يجمع شعوب المنطقة من روابط وأواصر تاريخية وثقافية وحضارية.. مما سيؤثر لا محالة على العلاقات الجزائرية الفرنسية ويزيد من توترها إلى حين إيجاد صيغ تبلسم العلاقات البينية، وقد تعمل فرنسا على طمأنة أصحاب القرار الرسمي الجزائري بأن موقفها هذا هو نتيجة تبصر وحكمة وأنها خطوة جادة لا يمكن التغاضي عنها ولا عدم وضعها في حسبان الإستراتيجية الفرنسية نحو الحفاظ على مصالحها والمزيد من استثمارها في علاقاتها المتعددة مع الرباط.
إذ لم تقف الجزائر عند حدود موقفها الغاضب مما جاء في بيانها بلهجة شديدة الغضب والتوتر، بل سارعت إلى سحب سفيرها من باريس، كأقصى ردة فعل دبلوماسية وسياسية من قبلها، وتعبيرا عن سخطها من موقف فرنسا الداعم للحكم الذاتي المغربي لأقاليمه الصحراوية الجنوبية، ومما جاء في رسالة ماكرون للعاهل المغربي بخصوص الاعتراف الصريح والوازن بما يقدم عليه المغرب من جهد عقلاني وما تفرضه المعطيات الإقليمية والدولية لإيجاد حل تحت السيادة المغربية يسير بجميع الأطراف قدما، لاسيما بمناسبة ذات دلالات عميقة تاريخيا، سياسياً، اجتماعياً، واقتصادياً، وطنياً ودولياً، من خلال المحاور التي يتناولها خطاب العرش، في بعديها التحصيلي والمستقبلي.
وبذلك تعتبر الجزائر أن هذه الرسالة الموجهة للدولة المغربية، بمناسبة الذكرى الـ 25 لعيد العرش، ذات دلالة خاصة ومتميزة وأبعاد رمزية، طعنة في هيكلها الأيديولوجي والسياسي والدبلوماسي في علاقتها بتوجهاتها الداعمة لجبهة البوليساريو، إذ يعكس شعوراً بالتراجع الدبلوماسي، خصوصاً في ظل الأهمية التي توليها لموقف فرنسا وتأثيره في تشكيل علاقاتها بالمنطقة المغاربية على مختلف الأصعدة.
خاتمة
إن الموقف الفرنسي الإيجابي الداعم لمخطط الحكم الذاتي المغربي للأقاليم الصحراوية الجنوبية المغربية، وإعلانه رسميا في رسالة ماكرون الموجهة للعاهل المغربي، في لحظة ذات دلالات رمزية، ذكرى اعتلاء العاهل المغربي عرش المملكة الخامسة والعشرين، يعتبر موقفا قصم ظهر البعير بثقله الذي ناء به الحمل لجانب المغرب، والذي لم يخيب آمال المغرب في رؤيته التبصرية والمستقبلية من خلال تجاذبات العديد من الأطراف الدولية في علاقاتها بالمغرب وما خطه عقله الاستراتيجي والسياسي في وضع حل للنزاع المفتعل بأقاليمه الجنوبية، وتفاعلاتها مع مخططه المتبنى من جانبه وتمسكه به دون رجعة، ومنها فرنسا لاعتبارات أملتها رؤيتها الإستراتيجية والسياسية والدبلوماسية، مؤكدة إيجابية وصلاحية وفعالية ما سيأتي به مخطط الحكم الذاتي المغربي ، وبذلك يشكل موقف فرنسا لحظة فارقة في مسار ملف الصحراء المغربية، الأمر الذي لم تستوعبه الجزائر من جهتها واعتبرته موقفا معاديا لما تتبناه من توجهاتها الأيديولوجية والسياسية تجاه الأقاليم الصحراوية المغربية، عملت من ورائه إلى إصدار بيان تعكس فيه رؤيتها بلهجة سياسية ودبلوماسية صلفة وحانقة، وبعدها اضطرت إلى سحب سفيرها من باريس، وبهذا تكون الجزائر قد أقدمت على خطوة تصعيدية تجاه فرنسا، من جهة أولى، ولا قدمت أي مبادرة محمودة في اتجاه تليين موقفها للمغرب، من جهة ثانية، وأنها لا تضع نصب أعينها مصالح الشعوب المغاربية ولا أهدافها المنشودة في تحقيق الاستقرار والتنمية والأمن والتطور التاريخي والحضاري، من جهة ثالثة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.