هل هذه هي النهاية؟ تساؤل يطفو على الألسنة بينما تدور رحى الحرب. لكن، هل تموت البطولة بموت الأبطال؟ الجواب يكمن في صدى الأفكار التي لا تموت. المقاومة ليست إلا فكرة راسخة، والجهاد عقيدة وإيمان يتجدد مع كل فجر. فيصبح موت الأبطال، مثل الغروب الذي يعقبه فجر مُشرق، حيث يُولد الأبطال الجدد من الألم أكثر تصميماً وبأساً، يستلهمون من السابقين العزم والثبات.
من رحم المعاناة وظلم الاحتلال، يولد الأبطال باستمرار وتبرز البطولات في أرض مباركة، أرض مسرى رسولنا الكريم، حيث الولادة هناك ليست كأي مكان آخر. يولد الأبطال بحق لا يهابون الموت كمشاريع شهداء، يعيشون أغلبهم حياته ملتزم برسالة سامية، حتى تأتي تلك اللحظة الموعودة بتحرير أرضهم أو أرواحهم حين يرتقون فيها شهداء، يرزقون عند ربهم أحياء، فتكون تلك أجمل خاتمة لحياة المؤمن.
الأمس، في يوم الأربعاء، الموافق للحادي والثلاثين من يوليو/تموز لعام 2024، بينما يستمر العدوان على أبناء فلسطين، وتستمر الصواريخ تلاحق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ في شوارع غزة. استشهد إسماعيل هنية كما يستشهد الفلسطينيون عادةً، ذلك القائد الذي عاش واستشهد كشعبه، وُلد في غزة، وترعرع في ترابها، شاهداً على الاحتلال والمقاومة. درس وعلّم، وقاد وحكم، ودافع عن قضية شعبه بكل ما أوتي من قوة حتى انضم إلى ركب الشهداء.
ولد إسماعيل هنية في مخيم الشاطئ بغزة، حيث تلقى تعليمه وبدأ حياته العلمية والنضالية. من طالب إلى عميد في الجامعة، من مقاوم إلى رئيس، مروراً بالسجون والنفي، وصولاً إلى قمة القيادة في حركة المقاومة. فكانت حياته ملحمة بطولية ورمز للشعوب العربية كافة، ومثل الأبطال، أخاف عدوه، فشهد على عدة محاولات لاغتياله ومصرع أحبائه، نجده يقول:"إنّ دماء أبنائي وأحفادي الشهداء ليست أغلى من دماء أبناء الشعب الفلسطيني. أشكر الله على هذا الشرف العظيم الذي أكرمني به باستشهاد أبنائي الثلاثة وبعض أحفادي."
بدأ إسماعيل مسيرته في النضال من جدران الجامعة الإسلامية في غزة، فشارك في النشاط الطلابي مع الكتلة الإسلامية بالجامعة التي انبثقت عنها حركة المقاومة حماس. منذ البداية، واجه تحديات جمة؛ فقد اعتُقل في 1989 وحُكم عليه ب3 سنوات في سجون الاحتلال، وفي عام 1992 تم نفيه إلى مرج الزهور، لكنه كان مخضباً بالصبر والتحدي.
وعند عودته من المنفى كانت بداية فصل جديد حيث تسلم رئاسة مكتب الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حماس. ومن هناك، تصاعدت مسؤولياته حتى تولى رئاسة الحكومة الفلسطينية في 2006، وظل رمزاً للوحدة والمقاومة، حتى في أشد الأوقات عصفاً بالخلافات مع حركة فتح، حيث أظهر روحاً من المصالحة في 2014، حين تنازل هنية عن رئاسة الحكومة في اطار مصالحة شاملة لإنهاء 8 سنوات من الخلافات مع حركة فتح، وفي عام 2017 اختاره مجلس شورى حماس رئيسا للمكتب السياسي.
في زمن يغلب فيه الانفصال بين حياة القادة وشعوبهم، حيث يتربع الساسة في أبراجهم العاجية، معزولين عن واقع الشارع وآلام الناس، عاش إسماعيل هنية، بين شعبه وليس فوقهم. لم تختلف حياته عن واقع أبناء شعبه، بل تشابكت معها في كل مساراتها من نضال ومأساة. منزله فلم يكن محصناً ضد صورايخ الاحتلال، فقد تعرض للقصف أكثر من مرة، مما أودى بحياة أحبائه؛ حفيدته استشهدت في قصف لمدرسة تؤوي النازحين، وفي حادثة أخرى، استشهد 3 من أبنائه في قصف استهدف سيارتهم.
كل هذا لم يكسر همته بل زاده إصراراً على مواصلة المسيرة لأجل شعبه، وفي يونيو/ حزيران 2024، شهد مأساة أخرى بفقدان 11 فردًا من عائلته بينهم شقيقته، فأكد مجددًا أن العدو لن يغير موقفهم وأن المقاومة مستمرة.
وفي 31 يوليو/تموز 2024 استشهد كالأبطال خلال عملية اغتيال من الاحتلال استهدفته في مقر إقامته بطهران، فكان مثال قائد يعيش ويموت من اجل شعبه،وترك إرث يؤكد أن القيادة ليست فقط موقعاً ومكانة.
ربما يموت الأبطال، لكن لا تموت قضاياهم؛ إنما يُحيونها ويُخلدونها بدمائهم الطاهرة. فقد تبع إسماعيل هنية طريق الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، ويحيى عياش، وصلاح شحادة، وكثيرون غيرهم، وبقيت ذكراهم حية يسير على دربهم جيل تلو جيل في طريق الشهادة. فالشهيد في فلسطين كالشعلة عندما تنطفئ تضيء مشاعل جديدة؛ فيكون رحيله ولادة لأبطال ومقاومين جدد يكملون المسير بعده بعزم وإصرار.
وكما قال عمر المختار، أسد الصحراء، قبل أن يُعدم على يد الاحتلال الإيطالي: "نحن لا نستسلم ننتصر او نموت وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.