اتسم التقليد الفلسفي الألماني في القرن الـ 19 بالتطورات التي ميزت المجتمع مع وصول الثورة الصناعية إلى أوروبا، وبشكل أكثر تحديدًا، اختلاط العناصر المبكرة للحركة الرومانسية مع حيوية فكرية متوقدة، وفضلاً على ذلك، كان لتقليد التنوير في هذا البلد مسار مكثف ومتميز لم يفقد بأي حال من الأحوال ارتباطه العميق بواقع آخر يمكن أن يصفه البعض بأنه صوفي وثني .
في مثل هذه البيئة لم يكن من قبيل المصادفة أن شخصيات مثل غوته وشوبنهاور وفاغنر ونيتشه والعديد من الفلاسفة المهمين الآخرين الذين أثروا في الفكر الغربي، وليس فقط، الفلسفي قد ولدوا في هذه البيئة و في تلك المرحلة بالذات، فمعادن الفلاسفة لا تلمع ولا تتوهج إلا في وقت الأزمات!
ولكن حسبنا أن الشخص الذي ميز القرن الـ 20 أكثر من غيره، هو أوسفالد شبينغلر، ذلك الفيلسوف ذو الشخصية الفريدة الذي رسم في خضم الاضطرابات التي شهدها عالم ما بعد الحرب الخطوط العريضة لعصر المستقبل بأكمله. وقد حظي عمله الرئيسي "تدهور الحضارة الغربية" بالاهتمام والعناية، لما يتضمنه من أفكار ونبوءات تنذر بمجيء عصر تنطفئ فيه الحضارة الغربية وتتلاشى .
في الفقرات التالية سنحاول أن نتناول بالتفصيل، وبعيدًا عن العديد من حالات الاستخفاف والتفسيرات الخاطئة الموجودة بشأن المواقف الأساسية للفيلسوف بشأن شكل التاريخ بالإضافة إلى توقعاته لمستقبل الحضارة الغربية، والتي تبدو ذات صلة بالحاضر أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى انبثاق حالة أقل ما يقال عنها إنها أزمة وجودية، لكن هي في الحقيقة أزمة إنسان.
أوسفالد شبينغلر.. كيف نظر لمسار العالم والتاريخ؟
أطلق شبينغلر على طريقة تفسير التاريخ حتى ذلك الحين اسم المنهجية. كان هذا نتيجةً طبيعية واختلافًا نهائيًا للمفهوم اليهودي المسيحي العلماني لمجيء العصر المستقبلي والنهائي للدينونة والغبطة؛ والذي سيكون نهاية العالم المادي كما نعرفه وبداية عالم آخر من شأنه أن يجلب المزيد من السعادة والعدالة ضد الحاضر غير العادل والسيئ.
وكان هذا واضحًا لأنه خلف التحليل العقلاني والمعادي للدين لدعاة "التقدم" و"العدالة الاجتماعية" كان هذا التصور ثاويا مع نهايته "النهائية" يتم التعبير عنه الآن بطريقة علمانية، بمسار عام ومستمر. التاريخ نحو نهاية أو غرض مخطط له، بناءً على أجندة سياسية أو أيديولوجية. وهكذا، إذا قارن المرء الاسكاتولوجيا المسيحية (علم آخر الزمان، وهو جزء اللاهوت يهتم بالأحداث النهائية للتاريخ) مع المفاهيم السببية والعلمية للمفكرين التقدميين، فإنه يجد توافقًا لمفاهيم "تحسين العالم" في سياق مستقبلي (وإنها لحقيقة أنه حتى النبرة الإلحادية المعلنة للفكر التقدمي للعديد من الأيديولوجيات تعزز العديد من عناصر التدين).
كانت هذه النظرة الخطية للتاريخ تسير في مسار يتعارض تمامًا مع طبيعة الواقع؛ حيث كانت تحاول تحقيق الرضا من خلال زرع الأمل بدلًا من الخوف من الموت، وتقديم الأمل للمستقبل في "عالم آخر"، سواء كان ميتافيزيقيًا أو كونيًا. إنه شعور الإنسان الذي ينحني إلى عالمه ونفسه ويفسر كل شيء بمنطق رمزي وسببي حاد. بهذه الطريقة، أصبح تفسير التاريخ مجرد سجل للأحداث وتشابه نسبي للأشخاص والمواقف المسجلة، دون أي منطق داخلي، لأنه بالنسبة لمؤيدي روح زمن شبينغلر، يسير التاريخ نحو تقدم مستمر، والذي تغلب على نقاط ضعف الماضي ولم يكن بحاجة إلى أن يمثلها، لذلك لم يكن لدى العالم أي شيء يصعب تفسيره لهذا التصور، بل الماضي والمستقبل.
وصل أوسفالد شبينغلر، انطلاقًا من تصور معاكس تمامًا، إلى تفسير مختلف للتاريخ ، ولم يتعرف فيه على أي نتيجة خطية وسببية. بالنسبة للفيلسوف، لم يكن التاريخ شيئًا ميكانيكيًا، ولا شيئًا يمكن تحديده وحصره في أطر زمنية ومكانية بسيطة، مثل المخطط المعتاد للعصور القديمة – العصور القروسطية – العصر الحديث. ولهذا السبب، علاوة على ذلك، يرى أنه "خلق الحس السحري للعالم، الذي ظهر لأول مرة في الديانة الفارسية واليهودية بعد كورش، في تعليم سفر دانيال عن العصور الأربعة [أو الممالك الأربع]"، لقد تلقى صيغة نهاية العالم، وفي ديانات ما بعد المسيحية في الشرق، وخاصة في الأنظمة الغنوصية، تم تشكيله كدين عالمي ."، فبات نزع السحر عن العالم كما أعلن ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أمرا مستبعدا تماما، فالسحر الذي تمارسه الغنوصية كديانة سرية لا تمارسه أي ديانة أخرى ، و لم تبُرع فيه ديانة على مر التاريخ .
على الرغم من أنه يدرك أن هذا الفكر يغطي ضرورة الوعي الذاتي لأوروبا الغربية مع ظهوره في التاريخ لتدشين شيء مثل السطر الأخير – مهما كان هذا التصور لمسار الحضارة والوعي الذاتي الذي يستلزمه، هذا الموقف الأخروي الإسكاتولوجي المعدل، مهما كان معناه كمفهوم عندما ظهر لأول مرة ومهما كانت النتائج التي ترتبت عليه، لم يكن أكثر من ضرورة وقتية، ومحاولة تدريجية لتفسير العقيدة بشكل مستقل عن الإملاءات الدينية والكنسية. لم يكن هذا المفهوم، أكثر من مجرد لمحة مروعة عن أسرار "النظام الإلهي للعالم"، ولم يكن من الممكن إلا أن يفقد كل معناه عندما تصوره الناس لاحقًا – فكريًا وكنظام – حالة الفكر العلمي.
إن "عالمية" و"علمية" هذا النظام التاريخي لم تكن أكثر من مجرد مسار بمراحل مبدئية ونهائية، لم يقتصر فقط على إقصاء الحضارات الأخرى من وجهة نظره، بل في الوقت نفسه حَدَّ من المعنى الحقيقي للكلمات وأسَاء تفسيرها، مثل "الإنسان" و"الثقافة" و"التاريخ" و"العقل"، فلا غرابة أن نجد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ينعت الإنسان بالأسطورة التي تبَدَّدت، ولا عجب أن نجد الألماني فريدريك نيتشه يقلب القيم ويفضح الجانب المظلم للأخلاق والثقافة التي اضمَحَلَّت، ولا نصدم حين نشاهد فيلسوفًا يُحلِّل ويفكك ويهدم ويحطم كل ما بنته الحضارة الغربية في عصر تَبَاَهَت فيه ورفعت فيه شعار الحداثة والعقلانية والفردانية، فلا حداثة مع فلاسفة اليوم، بل أضحى الحديث ساريًا حول ما بعدها مع عالم الاجتماع الفرنسي جان فرنسوا ليوطار ومن تَبِعَه، ولا عقلانية مع محللي اليوم، الذين أعلوا من شأن اللاشعور وتَعَامَلوا مع الشعور بنوع من الإقصاء والاستبعاد، ومع مدرسة فرانكفورت التي أعلنت كسوف العقل مع ماكس هوركايمر، ولا فردانية مع سوسيولوجيي اليوم ومع أنصار البنيوية، فالإنسان لا يسعه أبدًا أن يتمتع بالفردانية وهو مقحوم داخل بنية ومحتوم أن يعمل بقوانينها وعلاقاتها وتفاعلاتها وهذا ما قرره ستراوس وألتوسير وفوكو وغيرهم، فالحاضر لا شيء فيه صلب، لا شيء فيه متماسك، كل شيء يسيل، كل شيء يذوب، إنه عصر السيولة كما حدد عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، كما أنه لا شيء يمكن اعتباره واقعًا حيًا وحقيقيًا، كل شيء وَهْم على وَهْم، سراب على سراب، فائض على فائض، هذا هو الواقع السوريالي كما حدده جان بودريارد، ولأن كل شيء يسيل، فإنه كل شيء يتحرك، وكل متحرك حادث، والحادث زائل، فهذه الحضارة التي نهلت من الفلسفة مبادئها ومفاهيمها التي ارتكزت عليها، فلا بد أن تتحرك الحضارة من بداية متسمة بالازدهار إلى نهاية يسودها الانكسار والاندثار.
وبالتالي فإن الكلمات والعبارات في ذلك الوقت ذات المنظور الواسع المفترض مثل "الإنسانية" و"الحضارة الإنسانية" لم يكن لها أي قيمة للبحث التاريخي لأنها لم تحدد سوى شيء خطي وميكانيكي متحرك على النقيض من الصيرورة الحية التي تشمل الحياة وبالتالي التاريخ، بحد ذاتهما.
كانت نية شبنغلر تتعارض مع هذه الرؤية المحدودة للأحداث، وبالتالي للصيرورة، من أجل تنمية فلسفة أخرى لتفسير التاريخ. كان يعتقد أن الوقت قد حان لهذا التفسير الجديد ويجب أن يتكيف مع ظروف عصره. حيث كان يعتقد أن كل إنسان يعيش ويفسر الأحداث في سياق عمل العصر الذي يولد فيه ويعيش وينشأ فيه. وبهذه الطريقة رَفَض منذ البداية نية خلق نظام فكري مغلق ومطلق، فكان الإطار التفسيري الذي فكر فيه نتاجًا ضروريًا لعصره ولا يمكن أن يوجد أي معادل آخر له.
وهكذا اقترح استقبالًا آخر للتاريخ أطلق عليه اسم Physiognomic "علم الفراسة"، وهو شكل من أشكال التشكل التاريخي المقارن. وبهذه الطريقة يمكنه تقديم التاريخ في شكل أكثر حيوية وقوة، الآن سيتم تقييم كل شيء عضويًا على أساس التمايز الثقافي والعقلي لكل حضارة على حدة وفي نفس الوقت سيتم مقارنة مراحلها لفحص إرادة القدر وراء كل حضارة متفوقة وشعب تاريخي، أي أن هذه القوة الخلاقة الأولية التي هي جوهر هذه الحضارات، والتي، كونها تشبه الكائن البشري، لها مسار مماثل من الولادة والنمو والانحطاط ثم الموت في مسار حتمي، بهذه الطريقة فقط تكتسب مسألة التأويل التاريخي، التي لا يمكن أن تكون ناقصة وأخلاقية إلا إذا بقيت في الأشكال الأخلاقية الحالية "يجب أن يكون الأمر كذلك"، صلاحية عالمية منهجية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.