من السجائر التقليدية إلى الإلكترونية.. كيف تستنسخ تجارة الموت حملاتها التضليلية للإيقاع بالمستهلك؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/31 الساعة 08:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/31 الساعة 08:33 بتوقيت غرينتش


مع تفشّي التدخين أواخر القرن التاسع عشر وظهور أصوات مناهضة محذرة من أضراره الصحية، كانت شركات تصنيع ورق التبغ تكتب على مغلّف منتجها رديء المنشأ (رثيث الأقمشة والمنتوجات) أنّ "هذا الكاغد مستخرج من أرفع أرز إيطاليا" أو الأشدّ مغالطة – وبعثًا على الضحك والسخرية – "هذا الكاغد مأخوذ من الأزهار، نافع للصدر، مقوٍ للبصر، فاجتنب كلّ مقلّد عليه.". في دهاء ترويجي زاد إفشاء التدخين ومثّل شيئًا من تعلّات مدمني التبغ لطرد الأصوات المناوئة والناصحة.

استمرّت هذه الخديعة الترويجية وتعزّزت في العصر الذهبيّ للتدخين في النصف الأول من القرن العشرين وأواسطه، إذ أظهرت الشاشة الكبيرة والصغيرة لاحقًا الرجل أكثر فحولة وجاذبيّة عندما يدخّن السجائر، والمرأة أكثر إغواءً وإثارة، أو حتّى حيلة جعل التدخين رمزًا لتحرّر المرأة عبر الحملة التسويقية المضللة "مشاعل الحريّة" التي خطّطها 'إدورد برنيز' لصالح 'شركة التبغ الأمريكية'. بل ذهبت الإعلانات أكثر من ذلك بافتراء إيجابيّات صحيّة للتدخين، أو ادّعاء أنّ نوعيات معيّنة أفضل من غيرها لصحّة المدخّن، من ذلك إعلان لعملاق التبغ والتدخين Philip Morris 'فيليب موريس' يعزّز ادّعاءه الزائف بأنّ نوعية سجائره منصوحٌ بها من قبل أخصائيي الحلق والحنجرة لمرضاهم المدخّنين، وستجعل مدخّنها يشعر بتحسّن.

أتذكّر تلك المعلومات عند المرور بمحلّ في الجوار متخصص ببيع سجائر إلكترونيّة ومواد شحنها تعلوه يافطة مكتوب عليها "Bio" (أي بيولوجي أو عضوي) و"طبيعي %100″، فأجدني مع رؤيتها تارة أسخر وأخرى أستنكر الخديعة التي تعاود استنساخ المغالطات حول التدخين التقليدي لتغلّف ترويجها للمعوّض الإلكتروني. وقد انتشرت محلات بيع السجائر الإلكترونية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. من بينها أو أكثرها انتشارًا محلات IQOS 'أيكوس' أو التي تربطها بها الشراكة أو تبيع منتجاتها. 'أيكوس' هذه ليست إلّا فرعًا تابعًا لعملاق التبغ 'فيليب موريس'.

لكن دعنا نعود هنا إلى نقطة توقّفنا في تاريخ التدخين التقليديّ، فعصره الذهبيّ وتفشيّه في جميع أصقاع العالم تمخّض عن تعداد كبير من الضحايا بأضرار المدى المتوسط والبعيد له، من السرطان بأنواع مختلفة وأمراض القلب ونوباته وانسداد وتصلّب الشرايين وانتفاخ الرئة. وإذ صار الأثر السلبيّ ملموسًا بدأت الآراء والتحرّكات المناهضة تلاقي رواجًا، وبلغت زخمها في السبعينات والثمانينات مع تحرّكات وحملات عديدة أفضت إلى انتشار وعي صحيّ بخطورة التدخين، ونتجت عنها قوانين منعته في الأماكن المغلقة، وأضحى عادة ذميمة اجتماعيًا، بما جعل نسبة المدخّنين تتراجع بشكل ملحوظ.

هنا كان الحلّ عند شركة مثل 'فيليب موريس' وغيرها في العودة إلى نموذج آخر للتدخين ظهر أواسط القرن العشرين لكن لا يزال خارج دائرة الذمّ. إنّها السجائر الإلكترونية. يتمّ تقديمها هنا على أنّها بديل لمدمني النيكوتين غير القادرين على الإقلاع عن التدخين، فتمثّل لهم بديلًا "أقلّ ضررًا". ولعلّ القارئ يعود في هذه اللحظة إلى الفقرة التي تحدّثتُ فيها عن إعلان سجائر 'فيليب موريس'، التي تمّ تقديمها بنفس الصفة. وهي بديل لا يُنتجُ دخانًا حسب قولهم بل "بخارًا". قد يكون هذا التلاعب مستوحى من عمليّة التحايل على قوانين منع تدخين السجائر في الأماكن المغلقة، حيث استخدم المدخّنون السجائر الإلكترونيّة بديلًا في الربع الأخير من القرن الماضي.

لقد استثمرت شركة 'فيليب موريس' ملايين الدولارات لتطوير البديل الإلكترونيّ عبر فرعها 'أيكوس'، وضخّت ملايين أخرى في 'مؤسّسة لأجل عالم بلا دخان' (وغيرها). أجل هنا التلاعب بالكلمات كالعادة، "بلا دخان" لا "بلا تدخين"، والتي ركّزت مجهوداتها "لتقليل مضار التدخين"، وبالطبع هنا يتم طرح السيجارة الإلكترونيّة بديلًا أقلّ ضررًا، ولا ينتج دخانًا بل "بخارًا". غير إنّ منظّمة الصحة العالميّة أشارت بعدم التعامل مع هذه المؤسّسة باعتبارها واجهة لشركة تصنيع التبغ. هكذا قبل أن تغيّر المؤسّسة اسمها إلى "الحركة العالميّة للقضاء على التدخين"، لكن بعد أن أسهمت في حملة الترويج للسجائر الإلكترونية بديلًا أقلّ ضررًا أو بلا ضرر كبير للسجائر التقليدية، أو لعلّها لا تزال على نفس الخطّ فمن يترك التدخين التقليديّ يقع في شرك الإلكتروني، المدعوم بحملات تسويقية جارفة. وقد صارت "أيكوس" اسمًا ومُنتَجًا معروفًا عالميًا، بما لم يبلغه السلف 'فيليب موريس'.

إنّها الموضة المغرية الآن، السيجارة الإلكترونية، تلك الآلة بأشكالها الجذّابة المختلفة، ودخانها أو "بخارها" ذي الكثافة الكبيرة الملفتة، وروائحها القوية المتنوعة. حتى تعقيدها التكنولوجيّ وربطها بتطبيقات على الهاتف في مقابل بساطة السيجارة العادية يمثّل عامل جذب وإغواء في زمن الهوس بالتقليعات التكنولوجية، إنّها تمثّل مظهر تفوّق لحاملها وإغراء للناظر إليها.. كذلك التسمية فصاحبها ما عاد "يدخّن أو "يتكيّف" كما يقال في اللهجة التونسية بل هو "يفابي" في اشتقاق من كلمة Vape ضمن علاقتنا المشدوهة غير السوية بالكلام الغربي.. وهي فوق هذا لا تحمل الأوزار التاريخية للسيجارة القديمة.. ليس بعد.. فهي تتحصّن بنفس عناصر الحملة التسويقية التي ضمنت رواج سابقتها ووقر آذان المقبلين عليها عن أخطارها وأضرارها.

تشير الأبحاث إلى أنّ السجائر الإلكترونية تحملُ أضرارًا شتّى على الجسم، وإن كانت تقدّم على أنّها أقلّ، لكنّ ما تُزوّد به من مواد كيميائية ينتج تفاعلات كثيرة في الجسم ستجرّ أسقامًا جديدة، سيما على مستوى الرئتين، وهي تحوي مادّة النيكوتين المسببة للإدمان حتى تستعبد مدخّنها، قبل أن تجرّه إلى الأضرار متوسطة وبعيدة الأمد.. هذا في ما يخصّ الخاضعة لضوابط المواصفات، في الدول التي حدّدت معايير معيّنة للترخيص بطرحها في الأسواق.. أمّا المقلدة المتفشّية في دولنا، وحتى في دول "الضوابط"، فتحمل أضرارًا أكبر وأخطر. إذ يقول تقرير لـ بي بي سي إنه تمّ جمع عينات من السجائر الإلكترونية غير المرخّصة في بريطانيا، وبيّنت الاختبارات أنّ ثلثها يحوي مادّة الرصاص السامة، وأنّ 90 ٪ منها يحوي مادّة النيكل شديدة الضرر، بالإضافة إلى مواد كيميائيّة أخرى مسرطنة. هذا علاوة على الإعلان الكاذب بخلوّها من النيكوتين، إذ تحوي نسبة منه.. فذاك أداة الاستعباد، وللقارئ سديد النظر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالمنعم حواس
كاتب تونسي
سيناريست وكاتب تونسي
تحميل المزيد