تُعَدُّ التحولات في النقد الأدبي تجسيدًا بارزًا لتطور الفكر الأدبي والتفاعل مع المجتمع عبر العصور، ويُعتبر النقد الثقافي من أبرز هذه التحولات. يتجاوز هذا النوع من النقد مجرد استكشاف الجماليات الشكلية للنصوص الأدبية ليغوص في أعماق القيم والممارسات الثقافية التي تعبر عنها النصوص، بالإضافة إلى كيفية تلقيها من قِبَل القراء والمؤسسات المختلفة في المجتمع. بناءً على ذلك، يُعَدُّ النقد الثقافي أداة جوهرية في دراسة وفهم المجتمع، حيث يكشف عن الأيديولوجيات والخطابات السائدة وكيفية تفاعل الأفراد والمؤسسات معها. وفي هذا السياق، يقول الناقد والأكاديمي اليمني فارس البيل في كتابه "الرواية الخليجية: بحوث في الأنساق الثقافية" إن النقد الثقافي يتيح لنا اكتشاف أخطائنا الحضارية المتخفية وراء الظواهر الجمالية، حيث يُعَدُّ النص حادثة ثقافية، وتعتبر الكلمات سلوكًا نفسيًا واجتماعيًا. فالخطاب لا يأتي إلا متفاعلًا مع البيئة المحيطة ومتأثراً بثقافتها ومفاهيمها، سلبًا أو إيجابًا".
الأدب والنقد الثقافي والمجتمع
في كتابه "الرواية الخليجية: بحوث في الأنساق الثقافية"، الذي صدر مؤخرًا عن دار نشر عناوين Books، يبدأ البيل بتقديم تمهيد تاريخي لتطور الرواية الخليجية، ويقدم قبله مدخلاً تاريخيًا لمفهوم النقد الثقافي، الذي تطور من جذوره في القرن الثامن عشر حتى وقتنا الحاضر. يستعرض الكتاب كيف انتقل النقد الأدبي من التركيز على الجماليات الأدبية إلى استكشاف الأبعاد الثقافية والاجتماعية للنصوص الأدبية، مقدّمًا مدخلاً نظريًا يسهم في تقديم فهم أعمق للأسس النقدية التي يستند إليها المؤلف في تحليله للروايات الخليجية موضوع البحث.
يعتمد البيل في دراسته على المنهجية النقدية الثقافية التي ظهرت مع تأسيس مركز بيرمنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة عام 1964، والذي كان رائدًا في التركيز على الثقافة كعناصر شاملة تشمل العلوم والسلوكيات والنشاطات الإنسانية. يهدف النقد الثقافي إلى تجاوز الذاتية والمركزية التي ميزت الدراسات الأدبية ما قبل الحداثية، ويشدد على أهمية نقد الخطاب وكشف أنساقه، خاصة منذ تسعينيات القرن العشرين.
رغم أهمية النقد الثقافي، إلا أنه يتطلب جهدًا كبيرًا من الباحث، حيث يستدعي معرفة واسعة بتخصصات متعددة مثل علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، والتاريخ، بالإضافة إلى فهم السياق الثقافي الذي يعكسه النص الأدبي. يكتب البيل: "النقد الثقافي يسهم في دمج العلوم الإنسانية بالأدب، مما يعزز من إثراء النصوص والذاكرة الثقافية، ويفتح آفاقًا جديدة لفهم النصوص بشكل أعمق وكشف القيم الخفية والحقيقية التي تحملها".
تحليل الروايات الخليجية وتطوراتها في سياق ثقافي
استنادًا إلى منهجية النقد الثقافي، يقدم كتاب "الرواية الخليجية: بحوث في الأنساق الثقافية" تحليلًا للتحولات والتحديات التي يواجهها المجتمع الخليجي المعاصر، من خلال دراسة ثقافية لست روايات خليجية تناولت قضايا اجتماعية، سياسية، ونفسية متنوعة. يُظهر الكتاب كيف يعكس الأدب التحولات من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، متناولًا ليس فقط التغيرات في البنية التحتية والتكنولوجيا، بل أيضًا التغييرات في السلوكيات والنظرة إلى العالم من جهة، وكيف يتأثر الأسلوب الأدبي كمنتج ثقافي بهذه التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، والتفاعل بين المحلي والعالمي من جهة أخرى.
تُعَدُّ فترة الطفرة الاقتصادية التي بدأت في السبعينيات نقطة تحول محورية في حياة المجتمع الخليجي، حيث أحدثت تغييرات جذرية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك المجال الأدبي. في هذا السياق، انتقلت الرواية الخليجية من بساطة الموضوعات التي غلبت عليها ثيمة الوعظ والتعليم وأسلوب الكتابة التقليدي (الواقعية) في النصف الأول من القرن العشرين، إلى الرواية المعاصرة ذات الأسلوب ما بعد الحداثي، التي تعتمد على تقنيات معقدة مثل التركيب والتفكيك، والتجريب والغرائبية، وخلط الأجناس الأدبية. كما تركز على موضوعات مثل النسبية والتنوع والهويات المتغيرة. يُشير البيل إلى أن "الرواية تتغذى من تسارع إيقاع الحركة في أي مجتمع، لذا فإن تغير مسارب الحياة في منطقة الخليج أدى إلى تحولات اجتماعية أنتجت أدبها في ذات وقت تحولها."
ما هي الرواية الخليجية وما هي أهم ملامحها؟
يشير البيل إلى أن مفهوم الرواية الخليجية عائد للظروف السياسية والاقتصادية، والتقارب الاجتماعي، وتشابه الجغرافيا والتاريخ في دول مجلس التعاون الخليجي: المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، دولة الكويت، سلطنة عمان، دولة قطر، مملكة البحرين. ووفقا للبيل فإن هذا الاتحاد في منطقة الخليج العربي يعكس خصوصية مشتركة وسمات مميزة تجمع بين القيم والعادات والثقافة، مما يخلق إبداعًا شاملاً بنكهة مشتركة ومؤثرة. و تتجلى أبرز ملامح الرواية الخليجية في "تشابه المضامين الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يعيشها سكان المنطقة". الطفرة الاقتصادية التي بدأت منذ السبعينيات أحدثت تحولًا كبيرًا في جوانب الحياة، بما في ذلك الحياة الأدبية، حيث انتقل المجتمع من البداوة والريفية إلى الحياة العصرية المعقدة. هذا التحول كان ملمحًا بارزًا في الرواية الخليجية، التي أصبحت تعكس بوضوح التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة.
الإبداع الأدبي والتفاعل المجتمعي
يستعرض الكتاب في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة الرواية الخليجية من منظور لا يكتفي بتناول بنية السرد التقليدية فقط، بل يناقش النص في سياق التحولات الاجتماعية والتاريخية والنفسية في المنطقة في الوقت الحاضر. معتمداً على تحليل للنصوص الروائية من الداخل والخارج، يركز الكتاب على روايات من ست دول خليجية: "بنات الرياض" لرجاء الصانع، "الديزل" لثاني السويدي، "تبكي الأرض… يضحك زحل" لعبد العزيز الفارسي، "صمت الفراشات" لليلى عثمان، "ذهب مع النفط" لعبد الله خليفة، و"أشجار البراري البعيدة" لدلال خليفة.
في الفصل الأول بعنوان "ما قبل النص"، يناقش البيل مدى عكس العنوان والراوي الأنساق الثقافية السائدة في المجتمع الخليجي. ويوضح كيف يمكن أن يكون العنوان مدخلاً لفهم أعمق لمحتوى الرواية وأبعادها الثقافية، مما يعزز من قدرة القارئ على تفسير النصوص في سياقها الثقافي والاجتماعي.
في الفصل الثاني بعنوان "النص"، يستعرض المؤلف مكونات النص السردي مثل الحدث والشخصيات والزمان والمكان واللغة، مقدماً تحليلاً دقيقًا لكل مكون من هذه المكونات في الروايات المختارة. يوضح كيف تعكس الشخصيات والزمان والمكان القضايا الاجتماعية والسياسية والتفاعل مع الجغرافيا والتاريخ في المجتمع الخليجي، ويبرز كيف تتداخل هذه العناصر لتشكل صورة متكاملة عن الواقع الخليجي.
في الفصل الثالث بعنوان "ما بعد النص"، يركز المؤلف على عملية القراءة والتلقي، مُشيرًا إلى أهمية هذه العملية في مدى انتشار النص ونجاحه بناءً على استجابات المتلقين. يعرض البيل تحليلاً لأنماط المتلقين المختلفة وتأثير النصوص عليهم، موضحًا التمييز بين "القارئ الضمني" المتخيل و"القارئ الحقيقي" الذي يتفاعل مع النص بناءً على خلفيته الثقافية وتجربته الشخصية. تعبر الروايات الخليجية التي تم تحليلها في الكتاب عن تنوع استجابات القراء، خاصةً من خلال الروايات التي أطلق عليها "الروايات الصادمة" مثل "بنات الرياض" و"صمت الفراشات"، التي أثارت جدلا واسعاً حول القضايا الاجتماعية كوضع المرأة في المجتمع الخليجي المعاصر بين الانفتاح على الثقافات المجاورة والعالمية والخصوصية الثقافية.
لذلك، اختلفت ردود الأفعال بين القارئ المحافظ أو ما أطلق عليه المؤلف "قارئ يرضي السلطة"، وهو القارئ الذي يعارض النصوص التي تتمرد أو تخالف الروايات والتمثلات التي تدعم وتمثل السلطة السائدة، سواء كانت سلطة اجتماعية أو سياسية، والقارئ الذي يرى في الروايات فرصة للتعبير عن قضايا مهمشة ويدعم حرية الإبداع والتعبير، ويطلق عليه "القارئ الذي يرضي الأنثى والإبداع"، والقارئ الذي يقدّر القيمة الأدبية دون الانغماس في الجدل أو "القارئ المهادن".
أما الروايات التي يطلق عليها المؤلف "روايات مراوغة"، مثل "تبكي الأرض يضحك زحل" و"أشجار البراري البعيدة"، فتقدم قضايا اجتماعية هامة وإشكالية بطرق غير مباشرة، مما يفتح المجال لتفسيرات متعددة. يجد القراء المثقفون فيها فرصة لتفكيك الأبعاد الثقافية والفنية، بينما قد يجد البعض صعوبة في استيعاب النصوص الرمزية. تلعب الثقافة دورًا كبيرًا في تشكيل ردود فعل المتلقين، حيث يتنوع تأثير النصوص بناءً على القيم الثقافية والأيديولوجيات السائدة، ويظهر تأثير الثقافة بوضوح في كيفية تفاعل الذكور والإناث، وفي دور المؤسسات الثقافية في تقييم النصوص، كما ناقشت الدراسة.
خاتمة
على الرغم من أن اللغة الأكاديمية في كتاب 'الرواية الخليجية: بحوث في الأنساق الثقافية" قد تكون معقدة لبعض القراء غير المتخصصين، فإن هذا العمل يُعد إسهامًا مهمًا في دراسة الرواية الخليجية من منظور النقد الثقافي، حيث اعتمدت الدراسة على المراجع العربية والأجنبية والمعرفة بالسياق الثقافي في المنطقة لتحليل النصوص. بالإضافة إلى ذلك، يشجع هذا الكتاب النقاد على الاشتباك مع قضايا ومشاكل اجتماعية وثقافية يمكن مناقشتها من خلال تحليل النصوص الأدبية ضمن سياقاتها الثقافية. إذ يبرز النقد الثقافي هنا كأداة فعّالة للتفاعل مع النصوص الأدبية، في محاولة لتعزيز القدرة على استكشاف وتفعيل الحوار حول قضايا اجتماعية تؤثر في جميع أفراد المجتمع ومؤسساته، مثل الهوية، العلاقات الجندرية، والعلاقة مع السلطة الاجتماعية والسياسية في المجتمعات المعاصرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.