"من المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" الأحزاب: 23
إن استشهاد إسماعيل هنية قد دق آخر مسمار في نعش الخذلان والخيانة العربية، في بداية الطوفان، فقد أرادوا تحقيره وترذيل ما يقوم به من مقاومة، أرادوا تأليب سكان غزة عليه، بحجة الرفاهية التي توهموا أنه يعيشها في منفاه خارج القطاع، وهو الذي كان حاضرا قبل هذه المرة في جميع الاعتداءات على غزة من قلب القصف والصواريخ، واليوم حين رأى بحكمته أن يغير استراتيجية المقاومة في الخارج، أراد إخوته وليس أحد آخر أن يوهمونا بأنه تخلى عن أهله داخل القطاع.
ولكن العدو في كل مرة يبصم على غباء هؤلاء المتخاذلين، وهو في قرارة نفسه يقول لو كان كل أعدائي مثلكم لما استعصى علي الأمر في كل مرة، ولكن للأسف أعدائي مثل هذا الرجل الذي قضيت سنوات أريد التخلص منه، ولم يتسن لي الأمر إلا بعد كشف حقيقتنا أمام العالم، ودمر أسطورة الجيش الذي لا يقهر، الجيش الذي وراءه أغلب جيوش العالم، ولكنه لم يستطع القضاء على مقاومة يحاصرها في أصغر جزء من هذه الأرض لعشرين سنة.
هنية ليس رجل واحد في الحقيقة، هنية فكرة والفكرة لا تموت، هنية عقيدة يمثله في كل مرة رجل أشرس ممن كان قبله، فقد استشهد قبله أحمد ياسين والرنتيسي ويحيى عياش، ولكن المقاومة لم تمت، لأنها تحولت مع الزمن لجزء من كروموزومات وجينات كل فلسطيني أينما ولد وأينما حل.
نعم يولد الفلسطينيون وفكرة المقاومة والتحرير راسخة في عقولهم حتى قبل أن يفطموا من أمهاتهم، يولدون وأصبعهم على الزناد مصوبة تجاه ثلة من المجرمين لفظتهم أوروبا والعالم وزرعوهم في عمق الوطن العربي ليشلوا حركته نحو النمو والتقدم، وأحاطوهم بعملائهم من كل جانب ليحموهم، ولكن كان للمقاومة رأي آخر، لا مساومة على العرض ولا على الأرض التي تحوي مقدساتهم وتاريخهم وذاكرتهم.
لقد اختار الفلسطيني طريقة موته قبل أن يولد، واختار بقية العرب والإنسانية ألا يختلفوا عن أي كائن لا عقلاني في طريقة عيشهم وموتهم، بل اختاروا أن يعيشوا أمواتا، في حين اختار الفلسطينيون ألا يموتوا حتى لو قطعتهم صواريخ العدو أشلاء، لأنهم استوعبوا أكثر من أي إنسان على هذه الأرض قوله تعالى: "والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم".
تلك العلاقة التي لا وساطة فيها بين المخلوق والخالق، طلبوها ونالوها لأنهم أهلها الوحيدون في عصر النكران والجحود وانعدام المبدأ، في حين يقضي بقية العربان حياتهم أذلاء يبحثون عن واسطة حقيرة مع أصغر مسؤول في بلدانهم علهم ينالون بها لعاعة من الدنيا، دنيا أحقر مما يتخيلون بكثير.
أتدركون الفرق بيننا وبينهم، بين كائنات عشوائية تعيش عيشة البهائم وتموت ميتتها، وبين أناس يعيشون عيشة الأبطال ويموتون ميتة الأساطير الإغريقية؟ الفرق واضح ولكننا نغمض أعيننا عنه، الفرق ستكشفه الأيام والمستقبل إذا ما قُدّر لكيان اسمه غزة بالزوال لا قدر الله، من المؤكد أننا سنصحو يوما ما لنكتشف أن هذه العصابات اليهودية تتجول في شوارعنا العربية بكل حرية.
موت إسماعيل هنية على الأرض لن يغير من واقع المقاومة شيئًا، لأنهم قبل أن يخططوا لأي عمل وضعوا الموت في أول احتمالاتهم. المقاومة وخاصة الفلسطينية تعلمت مع طول الاحتلال كيف تعيد ترتيب صفوفها، وكيف تستنسخ قادتها، لأن قضية القيادة في معتقدهم أمر رمزي واعتباري فقط، في الحقيقة كلهم قادة وكلهم جنود في إيديولوجيتهم، من الفدائي الذي يضع العبوة الناسفة أسفل الميركافا، لصاحب البذلة الذي يقابل وسائل الإعلام. يستشهد آلاف الفدائيين يوميًا والعبوات لازالت تحول الدبابات إلى خردة، ويستشهد صاحب البذلة الرسمية، ولكن صوت المقاومة في الخارج لن يخفت ولن يختفي لأن خلفه صوت شعب لا ييأس ولا يرضى إلا باستعادة أرضه كلها دون مساومة أو نقصان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.