منذ أكثر من 10 شهور إلى اليوم، تتجلى أمامنا صور لم تكن مألوفة في الوعي البشري، حيث شهدت الإنسانية مستويات غير مسبوقة من الألم والمعاناة، ففي غزة يتم قتل البشر لا لشيء إلا لأنهم بشر يطالبون بحقوقهم. فصار الموت والقهر روتينًا يوميًا للحياة اليومية لكل فلسطيني في غزة، فهناك يتحول استهداف الرجال والنساء والأطفال إلى مشهد دموي دوري يُبث يوميًا أمام أنظار العالم وآذانه.
وتحت قصف الصواريخ، يسعى الاحتلال لإبادة المجتمع الفلسطيني بأكمله، مما يضع المرأة الفلسطينية في وجه معاناة لا يمكن وصفها. تحت الصواريخ وبين مآسي الحياة في شوارع غزة، تحاول المرأة الفلسطينية أن تمشي وسط الموت، بقلب دامٍ لكنه لا يخلو من الحنان. هي الأم والأخت والزوجة، التي تتحدى بجسدها الهزيل كل يوم مأساة جديدة، وتظل واقفة لا من أجل بقائها وحدها بل من أجل عائلتها بأكملها، فتحاول أن تلملم شتاتها كل يوم لعلها تصمد يومًا آخر أمام بطش العالم.
في الأشهر العشرة المنصرمة، شهدت غزة تجليات نبل وصمود لا يضاهى أمام بطش احتلال تدعمه أقوى إمبراطورية في عالمنا، كان بطلها المرأة الفلسطينية. تحت وطأة أحدث الأسلحة الفتاكة والصواريخ أمريكية الصنع، رمز الكفاءة في الإبادة، وفي ظل حصار دام لعشرين عامًا، تعيش هذه المرأة في محور المعاناة، يُقتل أبناؤها أمام أعينها وتُشرد عائلتها مرات عديدة، لكنها وبما تبقى لها من قوة في جسدها الهزيل وقلبها المهشم، تحمل أطفالها وتجمع أواني الطهو لتحاول في كل يوم أن تؤسس، ولو لساعات قليلة وربما دقائق، منزلًا يوفر ظلًا شبه آمن لأسرة ترتجف خوفًا من الصاروخ القادم.
وكأن الحرب، بكل ما غيرته في أرجاء العالم، لم تستطع تغيير جوهر هذه المرأة. فما زالت تعتبر نفسها المرشدة التربوية، تسعى دومًا لتخفيف وطأة الحرب على أطفالها. وفي ظل غياب مقومات الحياة الأساسية، تتبدل أدوارها بين الطبيبة والصيدلانية والممرضة، تعالج جراح زوجها وأخيها، وتضمد جراح ابنها، بينما تودع والديها بعد صاروخ مزق أجسادهم، مؤجلة علاج جراحها الذاتية إلى حين أن ترعى جراح الآخرين. هي الطاهية والمعلمة، الأم والشريكة، كأنها تدرك دورها العميق في هذا العالم الذي يتوحش يومًا بعد يوم، كآخر معاقل حلم ومستقبل آمن ربما لن يأتي قريبًا، وكأنها تستحمق أمام الموت فتخوض نزال الحياة كأنه غير موجود.
إن هذه التجربة القاسية التي تخوضها المرأة الفلسطينية اليوم رسالة، ففي فلسطين تحديدًا يمكن أن نقول أن المرأة حديدية، إذ تتحرك بإنسانية لم يشهدها التاريخ، وأنوثة تكحل عيون الزمان، وإصرارٍ تعجز عنه شواهد التاريخ، فباتت اليوم انعكاسًا لصورة شاملة لطبيعة هذا الصراع وشكل الظلم فيه ومستوياته.
هذا يعطي مثالًا عن كيف بحق يكون الإنسان متسلحًا بالعلم، مفعمًا بالحياة رغم الظروف القاهرة. حيث تتحول معرفته إلى سلوك منتج، ومغير لواقعه بحيث يصبح وجوده بحد ذاته مشروع ثبات وخطة تنموية ورسالة عزة. وهذا ما نراه في المرأة الفلسطينية التي تنهض من تحت الركام، ترفع شارة النصر بيد دامية، لتغرز في الأرض بذور تأسيس أمة.
في الحين الذي تتعدد فيه الأدوار بين فنون الطهي والإسعافات الأولية والمبادئ النفسية والسلوكية، ورؤية العالم، فإن حصاد كل ذلك ينصهر في شخصية امرأة تدرك الحياة بصورة غير نمطية، لتشكل هذا المزيج المعقد وغير المعهود باسم المرأة الفلسطينية.
ربما قد أصبر ليومٍ في حالة استثنائية، وربما إذا امتلكت العزيمة سأصبر لشهر، أما أن تصبر نساء مجتمعي كاملاً لقرابة السنة تحت أعنف القذائف، وقصف أعتى الطائرات، واجتياحات لا تنتهي، وتشريد لا يتوقف فأعتقد أن هذا لا يتقنه كثيرٌ من الناس. لذلك أجد نفسي مدهوشة أمام المرأة الفلسطينية وأدائها غير المسبوق نهائيًا كنموذج يُدَرس في التاريخ، ورسالة تربية صامتة ومتكلمة لجيلٍ يتقن فهم الحياة، والتشبث بإيمانه النبيل. فأمام صمود المرأة الفلسطينية الأسطوري وقدرتها اللافتة على التأقلم في بيئة لا يمكن التأقلم فيها، تسقط كل الشعارات أمام هذا النبل الإنساني لهؤلاء النساء في غزة.
"يا كحيلات العيون بلا كحل.. يا طيبات القلوب، أيتها الأمهات العذارى، يا صبايانا، لو كنتن تدرين كم قوة تبثها فينا ابتسامتكن.. لو تدرين كم عدوًا تهزمن!" تميم البرغوثي
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.