العلاقة الأمريكية-الأفغانية معقدة للغاية ويعود تاريخها إلى حقبة الحرب الباردة. تأسست العلاقات الدبلوماسية رسميًا في عام 1935، ومع حدوث تفاعل كبير خلال الثمانينيات عندما دعمت الولايات المتحدة مقاتلي المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي. أرست هذه الفترة الأساس لمشاركات مستقبلية، وخاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، التي دفعت الولايات المتحدة إلى غزو أفغانستان لتفكيك تنظيم القاعدة وإبعاد طالبان عن السلطة.
لمدة تقرب من عقدين من الزمن، حافظت الولايات المتحدة على وجود عسكري في أفغانستان، وبلغ ذروته بأكثر من 100 ألف جندي في عام 2011. بحسب الرواية الأمريكية، تطورت المهمة من مكافحة الإرهاب إلى مكافحة التمرد وبناء الأمة، بهدف إنشاء حكومة أفغانية مستقرة وقوات أمنية قادرة على الحفاظ على السيطرة دون دعم الولايات المتحدة. تجسدت هذه الجهود في عمليات حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة والمساعدات المالية والعسكرية المكثفة للقوات الأفغانية.
ولكن الحقيقة المرّة لهذا التدخل الذي أودى بحياة مئات الألوف هي أن الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تمتعت بفائض من القوة والموارد الاقتصادية وهذا ما دفعها إلى احتلال أفغانستان والتنكيل بأهله تماماً كما حدث في العراق أو كما يحدث اليوم من الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
وعلى الرغم من الجهود المكثفة، عانت الحكومة الأفغانية في عهد أشرف غني من الفساد وعدم الكفاءة والانقسامات. وكانت قوات الدفاع والأمن الوطني الأفغانية تعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي، سواء للتدريب أو للقدرات التشغيلية. وقد قوضت هذه التحديات استدامة الجهود التي تقودها الولايات المتحدة وأثارت الشكوك حول الجدوى طويلة الأمد للدولة الأفغانية.
كانت محادثات السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، التي بلغت ذروتها في اتفاق الدوحة لعام 2020، بمثابة تحول كبير. وقد حدد هذا الاتفاق انسحاب القوات الأميركية في مقابل ضمانات من طالبان بمنع الجماعات الإرهابية من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد الولايات المتحدة وحلفائها. ومع ذلك، واجهت الصفقة انتقادات بسبب غموضها وعدم تأمين وقف إطلاق نار شامل وعدم التوافق على المرحلة الانتقالية أو ضرورة الاعتراف بحكومة طالبان الحالية لانتشال أفغانستان من براثن الحرب.
أعلن الرئيس بايدن في أبريل/نيسان 2021 أن الولايات المتحدة ستكمل انسحابها العسكري بحلول الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2021، ثم الاستعجال بالعملية إلى الحادي والثلاثين من أغسطس/آب. وكان هذا القرار متجذراً في الاعتقاد بأن الوجود الأميركي المطول لن يسفر عن نتائج مختلفة وأن القوات الأفغانية بحاجة إلى تحمل المسؤولية الكاملة عن أمن بلادها. وعلى النقيض من تقديرات الاستخبارات الأميركية، تقدمت طالبان بسرعة عبر أفغانستان، واستولت على عواصم المقاطعات دون مقاومة تذكر. وبحلول منتصف أغسطس/آب، دخلوا كابل، ما دفع الرئيس أشرف غني إلى الفرار من البلاد. وقد فاجأ الانهيار السريع للحكومة الأفغانية الكثيرين وأدى إلى مشاهد فوضوية في مطار كابل حيث حاول الآلاف الفرار.
اليوم وبعد مرور حوالي 3 سنوات، من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن النفوذ الأميركي ومحاولات تغيير المشهد الأفغاني انتهت بالانسحاب العسكري من أفغانستان. فقد بقيت الولايات المتحدة في هذا البلد عشرين عاما وأنفقت ما يقرب من تريليوني دولار، وكانت أعظم خسائرها البشرية والاقتصادية في أفغانستان، وبالتالي فهي لا تزال تحاول الحفاظ على نفوذها في هذا البلد. ومن جهة أخرى، لا يزال إرث الصراع الأفغاني يشكل السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، ويؤثر بشكل بارز على المشهد الانتخابي الحالي. لقد أصبحت الطريقة التي أدارها بايدن للانسحاب الفوضوي نقطة محورية للتدقيق والمناقشة المكثفة. تتردد أصداء هذه القضية بعمق لدى الجمهور الأمريكي، بما في ذلك المحاربون القدامى، ولها آثار كبيرة على الديناميكيات السياسية ومشاعر الناخبين.
لقد أدى الإخلاء السريع والفوضوي، إلى جانب الخسارة التي تكبدتها القوات الأمريكية أثناء الانسحاب، إلى تآكل ثقة الجمهور. تُظهر استطلاعات الرأي باستمرار أن غالبية الأمريكيين، بما في ذلك المحاربون القدامى الذين خدموا في أفغانستان، ينظرون إلى الانسحاب على أنه إدارة سيئة. وقد أثر هذا التصور سلبًا على معدلات تأييد الرئيس بايدن، وبالتالي نائبته كامالا هاريس، التي تقترب شيئاً فشيئاً من نيل ثقة الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.
واستغل الرئيس السابق دونالد ترامب، على وجه الخصوص، هذه القضية لتعزيز آماله الانتخابية. خلال مسيراته الأخيرة، روى ترامب تفاعلاته مع زعيم طالبان عبد الغني برادار، مُسلِطًا الضوء على تأثيره المزعوم على تصرفات المجموعة.
يتضمن سرد ترامب حكاية مذهلة حيث يزعم أنه طلب من "برادار" عدم استهداف القوات الأمريكية، والذي رد عليه برادار، "أفهم ذلك، فخامة الرئيس". ويؤكد ترامب أن هذا الرد تكرر عدة مرات، مما يشير إلى تأثير شخصي قوي. كما يؤكد أن تهديداته لبرادار ضمنت عدم تعرض أي جندي أمريكي للهجوم لأكثر من 18 شهرًا بعد محادثتهما. وقال ترامب إنه حذر زعيم طالبان من أنه إذا قُتل مواطن أمريكي آخر في أفغانستان فسوف يقصف منزله، ثم سأل زعيم طالبان إذا كان لديكم صورة لمنزلي أرني إياها. ليجيب ترامب بالقول: "أسأل أحد مرافقيك أو إحدى زوجاتك". ويبدو بأن ذلك إشارة أيضا إلى موضوع تواجد إحدى زوجات برادار في ولاية فيرجينيا في الولايات المتحدة. مما أضاف إلى التكهنات المحيطة بالإفراج المفاجئ والسريع عن برادار من السجن لبدء مفاوضات الدوحة.
وبعد الانسحاب، واجهت أفغانستان أزمات إنسانية واقتصادية حادة. وانخفضت المساعدات الدولية، التي شكلت جزءًا كبيرًا من اقتصاد أفغانستان. كما أدت العقوبات وتجميد الأصول الأفغانية إلى شل الاقتصاد، مما أدى إلى انتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
تتسم العلاقات الأمريكية الأفغانية الآن بالمشاركة الحذرة. حيث تواصل الولايات المتحدة تقديم المساعدات الإنسانية لكنها تتجنب الاعتراف الرسمي بنظام طالبان. وتظل الولايات المتحدة منخرطة في أفغانستان في المقام الأول من خلال القنوات الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية. وتنعكس هذه التفاعلات عبر الجهود المبذولة للتفاوض على الإفراج عن احتياطيات البنك المركزي الأفغاني والمناقشات بشأن توزيع المساعدات والتعقيدات المرتبطة بالتعامل مع طالبان.
ختاماً، انتقلت العلاقة بين الولايات المتحدة وأفغانستان من المشاركة العسكرية المباشرة إلى مرحلة أكثر دقة وتحدياً من الدبلوماسية والمشاركة الإنسانية. وتستمر العواقب الطويلة الأجل المترتبة على الانسحاب الأميركي في التكشف، مما يؤثر على الاستقرار الإقليمي والسياسة الخارجية الأميركية وحياة الملايين من الأفغان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.