كانت النية أن أكتب عن الحدث الكبير في محراب الحرية المزعوم والذي انتظره الكثيرون بقدر ما استنكروا حدوثه أصلاً، ولكن تبين في النهاية أنه لم يكن سوى مشهد هزلي يذكرك بالقرود وهي تقفز وتصفق كلما ألقيت لها قطعة من الموز وكأنما ما اخترع المصطلح الشهير "جمهوريات الموز" إلا من أجله.. ثلةٌ من المهرجين تتبارى أيهم أكثر ابتذالاً وتصفيقاً لكبيرهم، نتن الإسم والصفة، وهو يؤدي وصلته من الرقص على الدماء والأشلاء في أداءٍ بهلواني قلب فيه الحقائق لتبدو على النقيض منها تماماً، كما يفعل أي ساحر متواضع في سيرك رخيص!! وهنا أدركت أن سمعتي ككاتب ستصبح على المحك، فأي كاتب ذاك الذي يزعم أنه يحترم قراءه ثم يضيع وقتهم بالحديث عن عروض السيرك!!
مدركاً لخطيئتي انصرفت بعدها للكتابة عن موضوع آخر عاد ليطرح نفسه على ذهني وأنا أعاني مع محرك البحث الشهير جوجل لإيجاد معلومات بسيطة متاحة للعامة عن بعض الأسماء التي ورد ذكرها في قائمة المدانين بتهمة "كراهية المهرجين"، والذين تعففوا وتمسكوا بشعرة ضمير أخيرة لديهم ورفضوا أن يرتبط اسمهم بهذا الاستعراض الهزلي.
كان غريباً أن أواجه تلك الصعوبة في الوصول إلى هذه المعلومات، ولكنها لم تكن المرة الأولى، ففي الشهور الأخيرة تكررت معاناتي مع محرك جوجل في أمور كثيرة، فلسبب ما أصبحت نتائج البحث أقل جودة ومصداقية ورصانة، وأكثر شعبوية إن صح الوصف هنا.. ويبدو واضحاً أن ثمة تحديث جديد غير مفهوم بعدُ للخوارزميات ونتائج البحث الصادرة عنها، وربما ارتبط ذلك بالخطط المعلنة لإدماج الذكاء الصناعي في محركات البحث. صحيحٌ أن ما حصلنا عليه من ذلك حتى الآن ليس إلا نموذجاً فريداً من الغباء الصناعي المُزعج كما صرتُ أسميه أحياناً في الفترة الأخيرة، ولكن لا بأس، فلعله سينجح يوماً ما قريباً في اكتساب الذكاء المأمول أخيراً والعودة لتقديم الإجابات المفيدة التي كان قادراً على تقديمها في الماضي قبل أن يفكر في أن يصبح ذكياً..!!
بشكل عام ومن الناحية التقنية فالأمر حتى هنا يبدو سلوكاً طبيعياً متوقعاً من شركات في وضع مهيمن وشبه مُحتكر لا تمانع في إزعاج مستخدميها بين الحين والآخر لتكتشف كيف يمكنها أن تربح منهم المزيد والمزيد لاحقاً… ولكن ثمة بعض أشياء أخرى تجعل الأمر مثيراً للقلق ولو على المدى المتوسط أو البعيد على الأقل.
فبينما تمتلىء منصات وسائل التواصل الاجتماعي بالمعلومات الخاطئة والمغلوطة عن قصد وغير قصد، بل وبتنا نعرف يقيناً أن هذه المنصات تتبنى أجندات معينة وتدفع بما يدعم سيناريوهات معينة على حساب أخرى، تبقى محركات البحث هي الملجأ لمعرفة الحقيقة والإجابة على تساؤلاتنا. فعندما يكون لديك تساؤلٌ ما أو عندما تقرأ أو تسمع معلومة ما وينتابك الشك بشأنها فإن أول ما يخطر على بالك هو أن تفتح محرك البحث وتبدأ رحلة التنقيب والإطلاع حتى تصل إلى ما تظن أنه الحقيقة أو الإجابة السليمة على تساؤلك. ولكن ماذا يحدث حين تُدعم معلومة مغلوطة لديك بمزيد من المعلومات الخاطئة التي تحصل عليها كنتيجة لبحثك؟ إنك هنا لم تقع فقط في فخ المعلومة المغلوطة بل أصبحت مترسخة ومعززة لديك بحقيقة أنك قمت بالبحث عن الحقيقة بنفسك وصارت مشكلتك هنا أكبر. ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك فعلاً…؟
في الواقع أنه يحدث في وقتنا الحاضر في أحيانٍ نادرة من باب المصادفة، خصوصاً حين تكون المصادر التي تتحدث عن الموضوع أصلاً نادرة أو محدودة. ولكن السؤال الأهم الآن هو ماذا لو أن ذلك حدث عمداً نتيجة دعم محركات البحث لسيناريوهات وأجندات معينة؟ إن النتيجة هي أن تختفي الحقيقة ويحل مكانها في الأذهان تلك المعلومة أو الفكرة المزيفة والتي تصبح مدعومة ليس فقط بوصولها إليك، بل بحقيقة أنك تأكدت منها بعد أن قمت بالبحث بنفسك، أو هكذا تظن. ومالم تكن صحفياً استقصائياً أو باحثاً محترفاً يمتلك الخبرة والأدوات الكافية لسبر الأغوار والوصول إلى الحقيقة فإنك لن تصل أبداً إلا إلى الحقيقة المراد لك الوصول إليها. ولكن مرة أخرى، هل يمكن أن تقوم محركات البحث بذلك؟ أو هل تجرؤ على القيام بذلك؟
في الحقيقة أنه وحتى هذه اللحظة ما تزال محركات البحث الشهيرة تتمتع بالحيادية والموضوعية إلى حد كبير جداً لا يمكن مقارنته بأي شكل من الأشكال مع حالة تزييف الوعي وتأثير الفقاعة التي تقوم بها منصات التواصل الاجتماعي. ولكن هذا يبقى هو الواقع الآن فقط وليس بالضرورة وليس هناك ما يضمن أن ذلك سيستمر في المستقبل، بل إن هناك مؤشرات مقلقة على أن محركات البحث الشهيرة تسير في ذلك الاتجاه في صمت وبطء شديد يذكرنا بممارسات منصات التواصل الاجتماعي في أوائل العقد الماضي وكيف تسللت بهدوء لتحكم قبضتها على الحقائق التي تنشر عبرها في صمت دون أن يتم الانتباه لها لفترة من الزمن، ولولا حيادية محركات البحث كأحد العوامل المهمة التي ساهمت في كشف هذا التباين بين الحقيقة وبين ما يصل إلينا عبر منصات التواصل، فلربما استمر ذلك الخداع والتلاعب لفترة أطول دون أن يلفت النظر أو يثير الجدل. وكل المؤشرات الآن للأسف تقول أن محركات البحث الكبرى تسير على نفس النهج خطوة بخطوة. بداية بالاحتفاظ بسريَّة الخوارزميات التي تحدد النتائج المعروضة عموماً وأفضلية ترتيب عرضها، وممارسة التخصيص في النتائج بناء على بيانات تتبع المستخدم تحت ذريعة تقديم خدمة أفضل وأنسب، ثم لاحقاً بدأ عدد النتائج التي تعرض كإجابة تصبح محدودة بشكل ما وفق تقييم الخوارزميات، ثم بدأ استخدام حجة حماية حقوق الملكية الفكرية وحماية القُصَّر لتسويغ فكرة حذف أو حجب بعض المحتويات من الظهور في خطوة تبدو ممهدة للتطبيع مع فكرة حق هذه الشركات في حجب ما تراه محتوى غير مناسب من وجهة نظرها.
قد تبدو كلُّ تلك مجرد قرائن لا تكفي للجزم بأننا نسير في ذلك الاتجاه، ولكن العلاقات المعلنة دون مواربة للشركات المشغلة لهذه المحركات مع جهات مشبوهة مثل الكيان الصهيوني وداعميه، وتبنيها الصريح لأجندات اجتماعية بعينها من بينها دعم ونشر ثقافة النوع الاجتماعي والمثلية الجنسية، وكذا علاقاتها الخاصة غير المعلنة مع مؤسسات حكومية غربية ذات طابع أمني بالدرجة الأولى، وهي العلاقات التي باتت في حكم السر المعروف الذي لا يتحدث عنه أحد كما يقال، إضافة إلى قيام هذه الشركات نفسها بممارسة نفس ألاعيب التضليل والإخفاء على المنصات الاجتماعية التي تديرها، كلُّ ذلك يدفعنا بقوة للتشكيك في المسار الذي تسلكه هذه الشركات بشأن محركات البحث، وتدفعنا للتساؤل عما إذا كانت الحقيقة ستختفي يوماً لتحل محلها أشياء أخرى مزعومة.
إن الخلاصة هنا هي أن منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث أصبحت عملياً هي العمود الفقري للإنترنت كما نعرفه، وهذا العمود الفقري تسيطر عليه بضع شركات تصيغ شكلاً محدداً للإنترنت في المستقبل يخدم مصالحها أولاً والأجندات التي تتبناها ثانياً دون أي مراعاة حقيقية لمصالح المجتمع أو الأفراد على مستوى العالم. وقد آن الأوان لنستوعب هذا الخطر ونبدأ بالتفكير والتخطيط والتحرك لمواجهة ذلك قبل أن تصبح الإنترنت التي نعرفها شيئاً من الماضي، وتصبح مجرد شكل آخر من أشكال وسائل الإعلام الكلاسيكية التي تصيغ لنا ما يجب أن نصدقه، حقيقةً كان أم كذباً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.