انسحاب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن خوض غمار سباق الانتخابات الرئاسية في سبيل الظفر بولاية ثانية وإن جاء متأخرًا قد يوصف على أنه من بين أحسن القرارات التي اتخذها الرجل طيلة فترة رئاسته "على قلتها" ليترك قليلاً من الوقت وكثيرًا من الأمل للديمقراطيين وعلى رأسهم نائبة الرئيس كامالا هاريس في تدارك فشل محتوم كان ينتظرهم في شهر نوفمبر المقبل، ليس لأن ترامب أقوى بل لأن بايدن أضعف بكثير سياسيًا وصحيًا.
حصول نائبة الرئيس كامالا هاريس على دعم مندوبي الحزب الديمقراطي للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة يكشف أن لدى الديمقراطيين قناعة بأن التوقيت الضيق الذي فرضه الانسحاب المتأخر لبايدن يستوجب عدم تضييع الطاقة في حلبة صراع حزبية حول أحقية من يقود الدفة في هذا الاستحقاق الكبير وأن التخندق في صف واحد خلف كامالا هو السبيل الوحيد للإطاحة بخطر ترامب الداهم الذي وإن تمكن من الوصول إلى سدة الحكم فإنه لن يكتفي فقط بإهانة الديمقراطيين وإنما سيتفرغ للانتقام منهم جميعًا.
خلط الأوراق من جديد بعد انسحاب بايدن أتى بثماره الأولى بتقدم طفيف لكامالا هاريس على ترامب وفقًا لما أظهره استطلاع "رويترز/إبسوس" الذي أجري في اليومين التاليين لإعلان بايدن الأحد انسحابه من السباق، لكن هذه الاستطلاعات تبقى مؤقتة إلى أن تطفو على السطح من جديد القضايا الداخلية الساخنة حول الهجرة، الإجهاض، حمل السلاح وزواج المثليين ثم الملفات الخارجية الحساسة وعلى رأسها ما يجري في غزة وأوكرانيا والمنافسة الاقتصادية مع الصين والتحديات الأمنية وصورة أمريكا في العالم.
تتخذ كامالا من الحق في الإجهاض أحد الملفات القوية لاستمالة الناخبين بالرغم من أنها تخاطر بخسارة دعم الكنيسة الكاثوليكية والمحافظين. بدوره، يتخذ ترامب من هواجس الأمريكيين فيما يخص ملف الهجرة وفشل إدارة بايدن في التعاطي معها كأحد نقاط القوة التي تمكنه من شن هجوم لاذع ضد خصمه، لكن هذا الملف يذكرنا أيضًا بفشله في تنفيذ وعوده الانتخابية ببناء الجدار الحدودي مع المكسيك والذي قاد إلى أطول إغلاق حكومي في التاريخ الأمريكي دون تحقيق نتيجة تُذكر في هذا الملف.
كما كان لمقتل جورج فلويد تأثير كبير على مشاعر الناخبين في صالح بايدن، ستعمل كامالا على الاستثمار في ملف ترامب القضائي في محاولة للإساءة إلى سمعته ولتجعل من المناظرة المرتقبة تبدو أشبه بوقوف المدان أمام القاضي، وستركز على حادثة اقتحام الكابيتول لتجعل منها أكبر فزاعة تخيف الأمريكيين وتدفعهم للتفكير في مخاطر العنف والتطرف الذي جلبه ترامب وهدد به عرش الديمقراطية الأمريكية.
في المقابل، سيحاول ترامب أن يجعل من المتاعب القانونية التي لاحقته منذ وصول بايدن إلى السلطة ملحمة يصف بها للأمريكيين حجم المؤامرة القضائية الكيدية التي تعرض لها وكيف نجح في تجاوز تعقيداتها ليزداد قوة وعزيمة، وسيحاول أيضًا إبراز كيف تقهقرت السياسة الخارجية في عهد بايدن وازدادت معها مخاطر الأمن القومي بشكل يسيء إلى تاريخ وقوة الولايات المتحدة وكيف كان الانسحاب الفوضوي من أفغانستان أبلغ صورة عن التخبط الذي عاشته السياسة الأمريكية وكيف نجحت الصين في تعزيز تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية واستغلال الفراغ الذي تركته إدارة بايدن لتحقق اختراقات في الشرق الأوسط ما كانت لتحدث لو كان ترامب على أعلى هرم السلطة.
في ملف أوكرانيا، ستبقى الخطوط العريضة التي سارت عليها إدارة بايدن هي نفسها في حملة كامالا الانتخابية، ولن يكون لها ما تضيفه في هذا الصدد سوى أنها ستؤكد مجدداً على ضرورة العمل مع شركائها الغربيين على تقديم الدعم المادي والعسكري لتجنب سقوط كييف. لكن، عليها أن تستعد لهجوم غير مسبوق من المعلومات المضللة والدعاية المغرضة التي ستسعى إلى الإضرار بحملتها الانتخابية وقد تنجح وسائل التأثير في شبكات التواصل الاجتماعي في الوصول إلى مبتغاها وهو تغيير وجهات نظر الناخبين الأمريكيين خاصة فيما يتعلق بهذا الملف بالذات.
ترامب يقدم الحلول السحرية في ملف أوكرانيا ويستمر في الترويج لعهده بإنهاء الحرب في وقت قصير، لكن حتى الآن لا وجود لمؤشرات قوية تدفع بالقول إن طرفي النزاع مستعدان للتفاوض وفقًا لما تتضمنه هذه الخطة، بغض النظر عن التطورات الميدانية التي يمكن أن تحصل وتدعم الموقف التفاوضي لطرف على الآخر. كما أنها لا تناقش وضع جزيرة القرم ولا الأراضي التي اقتطعتها روسيا من أوكرانيا، ولم تحصل على تجاوب إيجابي من الطرفين إلى حد الآن. لا ندري ما إذا كانت خطته ستأتي في صالح بوتين على حساب أوروبا التي وجدت نفسها منهكة في تحمل فاتورة الحرب بينما تحقق أمريكا مكاسب ضخمة في قطاع الطاقة. ومن الواضح أن كامالا ستشن هجومًا معاكسا في هذا الصدد في محاولة للتشكيك في نوايا ترامب السحرية التي قد تصب في مصلحة بوتين فقط.
فإن ما جرى ويجري في قطاع غزة سيكون له وقعه الخاص على نتائج الانتخابات القادمة، خاصة وأن دائرة المناهضين للحرب في الشارع الأمريكي متسعة وتحمل إدارة بايدن التي تنتمي لها كامالا المسؤولية والفشل في احتواء الحرب. قد لا يكفي غياب كامالا التكتيكي عن حضور كلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس لتكوين قناعة لدى الناخبين بأنها ستكون أكثر صرامة من بايدن في نهج التعامل مع حكومة نتنياهو دون أن تقدم تأكيدًا واضحًا وصريحًا بأنها ستتبنى نهجًا عقابيًا ضد السلوك العسكري الإسرائيلي. لكنها على الأقل تضمن نقاطا في صالحها مستفيدة من الهواجس التي تشكلها عودة ترامب بالنسبة للجالية العربية والمسلمة، لاسيما أن عودة هذا الرجل إلى الحكم تعني تمكين إسرائيل من ابتلاع القدس وافتكاكها بالكامل من الفلسطينيين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.