تحمل القضية الفلسطينية توهجًا خاصًّا في الذهنية العربية والإسلامية ولأسباب عدة، منها خصوصية الملف وارتباطه بمقدسات الأمة، وطوفان السجل المؤلم الذي تحمله منذ انبثاقها بكونها نكبة تاريخية كبرى سلبت فيها الأرض ووقعت تحت وطأة أشد المشاريع وحشية لمحو الهوية وطمس معالم الانتماء ومجابهة صوت الحق بآلة القتل المستمرة في حصد ضحاياها دون رأفة أو انتهاء.
ولكن بما أن الذهن الإنساني مجبول على النسيان والتعاطي مع لحظته الراهنة في أحيان كثيرة دونما استحضار لجذور الأزمة أو طبيعة المشكلة، فيعمد الصوت المعادي إلى اختزال القضية دوماً وجعلها مرتبطة بجزئيات هي إفراز لأصول لا يمكن تجاوزها، أو البدء كل حين من نقطة متأخرة بكثير عن لحظة البداية التي ربما نسيت أو خفتت إضاءتها في زحمة تشعّب الأحداث وتراكمها، لا بل إيجاد نقطة أو مشكلة ما بشكل متعمد لتكون هي مدار الحديث والتفاوض والتعامل، والانطلاق منها في قطع ووأد للكثير من المراحل المؤثرة ضمن مساراتها.
وهنا أستذكر قولًا متبصرًا وذكيًا للدكتور فهمي هويدي تعليقًا على طرح موضوع المستوطنات الصهيونية قبل سنوات إذ كتب: "ليس الموضوع متعلقًا بالمستوطنات.. هل نسينا أصل القضية؟!"
والقضية التي يقصدها الدكتور هويدي شاملة بشمول كل تفاصيلها وتشعبها، كبيرة بكبر أرض فلسطين، معقدة بتعقيد المشروع الصهيوني الاستئصالي، مركبة بقدر ما يواجهه أهل فلسطين منذ عقود من خطوات عسكرية لها طابع سياسي بجذور دينية وقراءة تأريخية متحيزة ومبتسرة، عميقة بعمق الحل المطلوب لعلاجها وإزالة ندوب الاحتلال البغيض، شديدة الحساسية بشدة ما يواجهه المسجد الأقصى المبارك هناك من مخططات خبيثة ما تزال تعمل دون هوادة لتحقيق حلم التاريخ المزور عند طائفة الموتورين!
ولما كانت القضية كذلك، بدا جلياً كيف أن مشاريع الحل التي طرحت وما تزال من بعض الأطراف فشلت وبجدارة وكانت عقيمة دوماً، فهي غفلت ولسنوات كثيرة هويتها الإسلامية الأصيلة، وعمقها التاريخي البالغ، وشدة إنسانيتها، وإرثها الضخم والثقيل، وحقوق ضحاياها الأبرياء من البشر والحجر، وخطورتها على مستقبل الأمة المسلمة جمعاء، وصولاً بطبيعة الحال إلى حل البيع التام لها عبر الخلاص البائس المرتهن لإرادة الشرّ والترويج لمشروع التطبيع سيئ الصيت.
وهنا بالتحديد تتجلى لدينا قيمة ومكانة خط المقاومة الإسلامية الفلسطينية متوجاً بجهد حركة حماس، إذ ما يزال مشروعها يسير على بصيرة نافذة وشاملة، والتزام مبدئي مؤسس لبناء منهجي رصين، ورؤية ثاقبة يغذيها وينميها صبرٌ استراتيجي ملفت.
ولذلك يصح القول في هذا المجال، إن تصنيفنا لطوفان الأقصى دوماً على أنه مفترق طرق تاريخي لم يكن تعبيراً مبالغاً فيه، فهو أعاد بوصلة القضية إلى موقعها الحقيقي، وأظهر بؤس الحلول الترقيعية والمهادنة والمتخاذلة على حدٍ سواء، وسط تجلٍ عظيم للهوية الناصعة والتي حاول الكثيرون وعبر جهد مضنٍ طمسها لصالح عناوين دخيلة.. وبالمقابل طرح رؤية الحل الحقيقية التي لا يمكن الحديث عن إنهاء هذا الملف بدونها.
هذه الأرض لن تتحرر إلا بالأيادي المتوضئة والعقول النيّرة والمناصرين من ذوي الحسّ الإنساني البالغ.. وكفى!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.