منتشيًا بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال خطابه أمام الكونغرس الأميركي في واشنطن، محاطًا بدولة أميركية عميقة مرحّبة، تشكلت من أصحاب القرار في الولايات المتحدة، من ديمقراطيين وجمهوريين ومستقلين على حدّ سواء، أحاطوا جنون عظمة الرجل بحفاوة بالغة وبتصفيق مبالغٍ فيه.
لم يحضر نتنياهو ليطلب دعمًا لإسرائيل في حربها الهوجاء على قطاع غزة، إذ تأكّد له – بعد الدعم اللامحدود الذي أبدته واشنطن لتل أبيب خلال هذه الحرب الممتدة لأشهرٍ تسعة – أنّ الولايات المتحدة الأميركية لن تترك سبيلًا لإغاثة حليفتها المزروعة في الشرق الأوسط، عسكريًا واقتصاديًا وديبلوماسيًا.
لعلّ حضور بنيامين نتنياهو كان لـ"حاجةٍ في نفسه قضاها".
إعادة تدوير بنيامين نتنياهو أميركيًا
شعر رئيس الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا أنّ المشهد الدعائي الذي روّجه خلال حربه على غزة – على أنها حرب دفاعية – لم يعُد "بيّاعًا" في نفوس بعض الأميركيين من الناخبين أو من ممثليهم، وقد تجلّى هذا التململ في كلامٍ صريحٍ لعددٍ من النواب والصحفيين والنخبويين في الولايات المتحدة، فضلًا عن الاحتجاجات التي عمّت الشوارع والجامعات الأميركية مطالبة بوقف الحرب ومحاكمة نتنياهو.
وألحّت على الرجل ربما حاجة إلى إعادة ترويج نفسه عند الأميركيين من ساسة وعامّة، لأنّه يعلم علمًا يقينيًا أنّه بات محاطًا بعلامات استفهام كثيرة وانتقادات واسعة طالت شخصه أكثر مما طالت رؤساء الحكومات الإسرائيلية على مدار العقود السبعة الماضية، رغم كل المجازر المرتكبة في الحروب الإسرائيلية – العربية!
سيف الحضارة المسلّط على رقاب البرابرة؟
كان بديهيًا أن يتحدث نتنياهو بصفة الكائن المتحضّر مقارنةً بالفلسطينيين البرابرة على حدّ تعبيره، فهذا مصطلح يهمّ الأميركيين باعتبار أنّهم يقدّمون أنفسهم مدافعين عن قيمة الحضارة والانفتاح والتمدّن، وهو ما لا يتوافق بأي حال مع ما قامت به الولايات المتحدة في أفغانستان وكوبا وغوانتنامو والعراق وفيتنام إلخ..
لقد فقأت واشنطن هناك عين الحضارة وأعادت عقارب الساعة بأفعالها إلى عصور البشرية الأولى!
لكنّ ما بدا مثيرًا للدهشة أنّ الرجل أقنع أعضاء الكونغرس، ولعله أقنع مِن ورائهم صناع القرار في دول غربية وعربية، أنه يخوض حرب الحضارة بالنيابة عنهم وبالوكالة عن العالم المتقدّم.. رغم كلّ المجازر البربرية التي قام بها جيشه في غزة خلال الحرب الجارية!
طهران ووكلاؤها ترنيمة نتنياهو المفضّلة!
كان ضروريًا أيضًا أن يحذّر بنيامين نتنياهو الأميركيين من مخاطر إيران ووكلائها، وأن يعزف هذه السيمفونية التي تدغدغ مشاعر صناع القرار في واشنطن، ومن شأنها أن تصرف العين الأميركية الرسمية والشعبية بعيدًا عن جرائمه في غزة والجوار، لأنّ خطر إيران أولى وأمرّ!
وقد قيل سابقًا في تحليلات سياسية وعسكرية أنّ الولايات المتحدة عمدت في العقدين الأخيرين إلى استخدام ورقة التوسع الإيراني والتسلّح الذي يبالغ فيه حلفاؤها الإقليميون للضغط على دول عربية وشرق أوسطية، لكن أن يستعملها نتنياهو للضغط على واشنطن بحدّ ذاتها، فهذا من أعجب العجب!
نتنياهو ورقة رابحة ديمقراطيًا وجمهوريًا
حرص بنيامين نتنياهو على توجيه الشكر إلى الرئيس الديمقراطي جو بايدن لـ "جهوده الحثيثة من أجل الإفراج عن الرهائن"، بينما لم ينسَ – صديقه المقرّب – الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترامب، إذ شكره على كل ما فعله لإسرائيل، من "الاعتراف بسيادتها على مرتفعات الجولان إلى مواجهة إيران إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل".
وهو إذ يتوقّع، كما عددٌ من الإحصاءات الغربية والأميركية، أن يعود الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها نهاية العام الحالي، يتوقّع أيضًا فرضية أن تصل المرشحة الديمقراطية المحتملة كامالا هاريس إلى البيت نفسه، فقرر أن يصلح ما أفسده الدهر مع كلا الحزبين – تملّقًا في خطابه – وهكذا كان!
واشنطن تعلن نتنياهو رئيسًا بالتزكية؟
تحقق للزائر الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة ما أراد بنسبة كبيرة، حتى وإن رفعت النائبة الأميركية رشيدة طليب لوحة تصنّف نتنياهو على أنه مجرم حرب، ورغم التظاهرات التي نظمها أميركيون حول مبنى الكونغرس، وبمعزل عن مقاطعة بضع نوابٍ من الديمقراطيين للخطاب أو اكتفائهم بالحضور دون تصفيق، لكنّ هذا لا يغيّر من المشهد قيد أنملة.
لقد فاز نتنياهو كما دائمًا بدعم الدولة الأميركية العميقة في واشنطن، وكسب مجددًا الدعم الأميركي – الديمقراطي والجمهوري – الذي كاد أن يفلت من يده مع سقوط ما يزيد عن 39,000 من المدنيين في غزة، فضلًا عن عشرات آلاف الجرحى والمفقودين والمعتقلين.
توّج الكونغرس الأميركي – بمشهد الحفاوة المفرطة بنتنياهو – الأخيرَ رئيسًا أميركيًا جديدًا أيًا يكن مرشحها الفائز في الانتخابات، وأعطاه رخصةً لا نهائية لإدامة المذبحة المفتوحة على مصراعيها في الشرق الأوسط!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.