ما زالت كلمة الفلسفة كلمة متهيبة في الحوارات والجدالات بين الأفراد في مجتمعاتنا العربية، في حواراتهم السياسية والاجتماعية، وحتى في حواراتهم في شؤون تواصلهم الاجتماعية، مثل تواصلهم في الرياضة والفن والأدب والدراما، وإن أخذنا وتتبعنا استخدام المصطلح في التاريخ العربي، نجد بدءًا في عصر ما قبل الإسلام لم يكن المصطلح مستخدمًا هكذا، ولكن الأشعار والمقولات التي قيلت تحبذ على الحكمة لتواصل الاستمرارية في الحياة، فمثلاً "أنج سعد فقد هلك سعيد" ومثلاً "هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل"، حتى أتى عهد الإسلام وحدثت النقلة بالتدوين والكتابة، ونقل الأفكار والحقائق والمعلومات، فكان فيه القول المنبعث من الحكمة الإلهية في الحديث والقرآن، مصدرًا لكثير من الأفكار والحكم، ومنتجًا للنظام الاجتماعي القائم على سد الفجوات المحدثة للعطب الاجتماعي وأسباب الخلاف، وراعي الصحابة ومن بعدهم رغم التقاتل بينهم فيما بعد خلافة عمر راعوا التقوى مؤولًا، وأصبحت هناك المرجعية والاحتكام لأصحاب الرأي وأُسست أسس للفلسفة، بانبناء التصنيف كطريقة لحساب من هم أصحاب الرأي السديد، ومن هم أصحاب السلوك القيم والأنجع، ومن هم من يحدث سلوكهم المعين النتائج المعينة.
أتى بعد ذلك زمن الدويلات، ولا أقول إن النصوص لوحدها منتجة لشكل التفكير والاستحكام، بل تغيير شكل الحياة نفسها وشكل معاش الناس، وفي زمن الدويلات حصل الانهيار في شكل التفكير، حيث انتشرت الطوائف المكفرة وانتشر الصراع بين المذاهب قتلًا وتشريدًا، كما أن الشعر وهو ديوان العرب ومخزن حكمتهم أصبح شعرًا لترويج البضائع عند أصحاب المتاجر والباعة، حتى أتى عهد الاستعمار التركي ومن بعده تبدل الإنجليز وغيرهم من الأوروبيين البلاد العربية احتلالاً، فكانت صدمة الحداثة بمقابلة الفكر الأوروبي وأشكال التمدن السريعة بعد إنتاج المصانع والمشاريع الزراعية، التي حولت شكل علاقات الإنتاج في القرى الصغيرة إلى شكل وجود أصحاب أملاك من كبار رجالات الطوائف الدينية وكبار رجالات الإدارة الأهلية ونظار القبائل، ومن قبلهم ومن بعدهم المستعمر المقدم لمنتوجه الفكري والأدبي والثقافي.
ثم بعد ذلك تمت إساءة كلمة فلسفة في الحوارات اليومية، لدخول بعض العامة من الهاربين من الفقر بعد تطور وسائل الإنتاج وعملهم كأجراء في التسويق لوجود الإنجليز، وعمل البعض منهم باختلاف مذاهبهم الفكرية أو حتى لو كانوا رجال دين، للتسويق لوجود المستعمر وأنهم حقيقة ماثلة، تبنوا بذلك الفلسفة الوضعية المنطقية بحيث يكون لكل فرد من داخل وظيفته استعداداتها الذهنية ومتطلباتها ووعي إكمالها وأدائها، دون النظر للنتائج التي تظهر على الشعوب الواقعة تحت الاستعمار وخساراتهم في مأكلهم ومشربهم ورصيدهم الروحي، المكتمل بإيفاء متطلبات الحياة الكريمة، بذلك تحول الحوار اليومي الفكري في تفاصيل الحياة بين مدافعين عن سلطات وحكومات وبين مناهضي من أحزاب معارضة، ربط المؤيدين عن السلطات رفضهم لمناهضة حكوماتهم، بحجة غير مقنعة بأنه يجب موالاة ولي الأمر وكان هذا ومازال ديدن البسطاء من العامة المنساقين بالتفاسير غير سليمة للوحي، فولى الأمر في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس مثل السارقين الناهبيين الموالين للحكومات الغربية.
دخلت بذلك كلمة الفلسفة إلى الحوارات اليومي وأصبح الحس النقدي وترتيب الآراء وتفنيدها يسمى بالفلسفة غير المجدية، لهزيمة الرجعيين والسلفيين من أصحاب الفكر التبريري، الموجد للأسباب والأعذار لكل سلوك سلطوي الشَّيء الذي جعلهم وكأنهم مرتبطون بالسلطات ارتباطًا مشيميًا، يقبلون كل ما يأتي منها، الكثير منهم ممحوقون في فكرهم كونهم عوامًا يبحثون عن الرزق ولا يستطيعون المُضيَّ في الذهن أكثر من أرزاقهم البسيطة التي لا تتماشى مع التفكير الفلسفي الذي يعمل على هدم الموجود وبنائه في الذهن ونقض المحسوس وتخيل وجود غيره كما كثيرا الإجابة على أسئلة الوجود بأسئلة العدم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.