إذا كان النظام السياسي هو مجموع المؤسسات الحكومية صاحبة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية محاطة بكمّ يزيد أو ينقص من القواعد والإجراءات والمعايير والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية وإذا كان الوطن هو المكان المادي الذي يولد به الإنسان مصحوبًا بشعور عميق بالانتماء والتعلق بهذا المكان وبالقيم الثقافية والتاريخية والاجتماعية المحددة للهوية الوطنية فإن "المواطن" لا يعدم أن يكون مخلصًا للوطن أو للنظام أو لكليهما إن كان النظام مخلصًا للوطن!
ويبدو أن طبيعة هذا الإخلاص ودرجته مؤشران دالان على طبيعة المجتمع والنظام في الوقت ذاته.
سيكون من الرائع أن يسأل كل مواطن نفسه عن إخلاصه، أهو لوطنه أم للنظام الذي يحكم الوطن ولكن الأمر اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا لا يتم بهذه البساطة أولًا ولا يمكن أن يشكل أداة تحليلية أو تقييمية ثانيًا ولا جدوى فعلية ترجى منه إلا "زخم العاطفة سريعة الانقضاء" و"وهم الوعي شديد التآكل".
إن حديثًا كهذا سيحيلنا إلى المفهوم الحقيقي "لخيانة الوطن" باعتبارها وفق هذا السياق إخلاصًا لأعدائه لا يستلزم العمالة المباشرة ولا ينفيها وهو ما سيكون من المفيد إفراده ببحث متعدد الأبعاد بمقاربة ما بعد كولونيالية.
ليس لهذه المقدمة هدف غير وضع القارئ في سياق معرفي يتساءل فيه عن مفهوم "المجتمع المدني" ذائع الصيت في مسرد مصطلحات الديمقراطية التي يتبناها الغرب ويتمناها الشرق وفي مسرد الدولة "الرشيدة" التي تزعم كل الأنظمة أنها هي!
والمجتمع المدني بتعريفه الأكاديمي المباشر هو مجموع المنظمات والمؤسسات غير الحكومية التي تعمل بشكل مستقل عن الحكومة لتحقيق أو تعزيز مصلحة المواطن وهي بالتأكيد تشمل النقابات العمالية والجمعيات والأندية الثقافية والرياضية والمؤسسات الإعلامية المستقلة وكل تنظيم شرعي وغير حكومي يهدف إلى مراقبة الأنشطة الحكومية والدفاع عن حقوق المواطنين.
إنه لمن الجلي أن هذا التعريف للمجتمع المدني يجعل منه أولى "الكيانات" بالمراقبة وأجدرها بالنظر والتحليل وأقدرها على الإشارة إلى طبيعة الإخلاص الذي نتحدث عنه لكونه إطارًا مجتمعيًا يفصح منتسبوه عن طبيعة إخلاصهم ودرجته دون سؤال وبعبارة أخرى فإن المجتمع المدني يمثل عينة مثالية لقياس صلاح النظام وصلاح المجتمع وصلاحية الوطن!
المخلصون للوطن يراقبون النظام السياسي السائد ويتصرفون معه وفق قدراتهم والمخلصون للنظام يواكبون النظام السياسي ويتصرفون معه وفق أوامره ولهذا تؤشر تركيبة المجتمع المدني "الرسمي" على ماهية النظام وطبيعته ودرجة صلاحه، وبتفصيل أكثر فإن المخلصين للوطن يقيمون مع النظام علاقة "تقويمية" تقوى كلما اتسع هامش الحرية وتضعف كلما اشتد القمع وقد روى البخاري في التاريخ الكبير "أن عمر قال يومًا في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فعاد مرتين، أو ثلاثًا، قال بشير بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القدح، قال عمر: أنتم إذن أنتم". أما المخلصون للنظام فهم يقيمون معه علاقة "تبريرية" وهي في الأغلب ثابتة القوة لأنها تنطلق من مبدأ الاستناد إلى قوة النظام السائد أو الذي يليه! ولهذا الاستناد مظاهره الريعية القائمة على مبدأ الاقتراب من مركز الجاه لتحصيل المقابل.
يستطيع كل منا أن ينظر إلى زعماء النقابات ورؤساء الجمعيات ووجوه الإعلام حتى لا نذكر إلا هؤلاء فإن كانوا ممن يقومون النظام كلما أخطأ بحق الوطن فنحن والنظام والوطن بخير وإن كانوا ممن يبررون للنظام كل ما يأتي وينحون باللائمة على "المواطن" الذي "لا يفقه كثيرًا من الأمر" فنحن والنظام والوطن بانتظار أيام أفضل!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.