قد يسهم الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي في تدمير أدمغتنا، لكن من الصعب التوقف عن استخدامها. فهي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. تُظهر الدراسات أن الإنترنت قد يكون ضارًا بالصحة العقلية، ويدرك عدد متزايد من الناس هذه الأضرار. يحث بعض معلمي الإنترنت على التخلي عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويرسل المسؤولون التنفيذيون في مجال التكنولوجيا أطفالهم إلى مدارس تتبنى سياسة ضد الاستخدام المفرط للإنترنت. لكننا بحاجة إلى حل أكثر منهجية للسيطرة الكبيرة التي يمارسها الإنترنت على حياتنا؛ نحتاج إلى رؤية الإنترنت كمصنع نعمل فيه جميعًا دون أجر.
شهدت السنوات القليلة الماضية تحولًا في مشاعر مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي اتجاه أغلب المنصات بشكل عام. في السابق، بعد أن كانت تُعتبر تقنية تحررية تبشر بعصر من الإبداع والاتصالات الجديدة في جميع أنحاء العالم، استفاد الكثيرون منها حتى على إحداث تغيير كبير على مستوى العدالة الاجتماعية.
ومن الأفلام الوثائقية الأكثر شعبية على منصات البث المباشر في العام الماضي كان "المعضلة الاجتماعية" (The Social Dilemma)، الذي لفت انتباه المشاهدين إلى أخطاء الخصوصية على وسائل التواصل وميكانيزم تلك المنصات لإبقائك متصلًا بها. وحتى بعض الروايات المثيرة للجدل هذا العام تناولت الجوانب المظلمة للإنترنت، مثل رواية "الحسابات المزيفة" للكاتبة لورين أويلر ورواية "لا أحد يتحدث عن هذا" للكاتبة باتريشيا لوكوود.
ربما يقوم بعضنا بإعادة تقييم علاقته بالإنترنت لسبب وجيه، لكننا قد نخطئ في تصنيف هذه العلاقة بشكل صحيح. فهي ليست مثل علاقة سيئة يمكننا الابتعاد عنها، وليست مثل الوجبات السريعة التي يمكننا تقليل استهلاكها. إنها تكنولوجيا شاملة، المحرك الاقتصادي الرئيسي، والأداة التي نضطر إلى استخدامها لتلبية احتياجاتنا والتواصل مع الآخرين. إنها جزء أساسي يتوسط كل مفاصل حياتنا اليوم.
لذلك، لا يمكن لحل الأزمة إدمان "البقاء متصلين" الحالية أن يأتي على المستوى الفردي بعد الآن، فعلى سبيل المثال، استقالة شخص واحد من وظيفته لا يمكن أن تحل ظروف العمل السيئة في النظام الرأسمالي. إذا أردنا أن نجعل الإنترنت أقل إرهاقًا وأكثر إرضاءً، فإن منشئي المحتوى والعاملين في الاقتصاد المؤقت، وحتى المستخدمين العاديين للإنترنت، بحاجة إلى الضغط من أجل حل منهجي شامل.
تشير مجموعة متزايدة من الأدلة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون مضرة حقاً للمستخدمين. فوفقاً لدراسة أجريت في عام 2021 على طلاب الجامعات، تبين أن تقليل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمدة 10 دقائق يومياً يؤدي إلى انخفاض كبير في مستويات القلق لدى المشاركين. كما وجدت دراسة أجريت في عام 2022 أن المراهقين الذين يقضون وقتاً أطول على الإنترنت يكونون أكثر عرضة للإصابة بمشاكل الصحة العقلية. وتشير دراسات أخرى إلى أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي غالباً ما يشعرون بمزيد من الوحدة والعزلة وانخفاض الثقة بالنفس.
على الرغم من هذه الأضرار، فإن وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بالنصائح حول كيفية أخذ استراحة منها، وقد تم تأليف العديد من كتب المساعدة الذاتية التي تشجع الناس على الانفصال عن هذه الوسائل. وهناك العديد من محادثات TED الشهيرة من قبل مهندسي الإنترنت السابقين والمديرين التنفيذيين الذين يحذرون من الاستخدام المفرط للإنترنت، ويحثون الناس على الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي.وبعيداً عن الدراسات والمحاضرات، أجد أن الدليل على مدى ضرر تلك المنصات الاجتماعية هو أن الأشخاص الذين يبنون هذه التكنولوجيا يرسلون أطفالهم إلى مدارس تراقب استخدام التكنولوجيا، مما يعكس اعترافهم الضمني بقدرتها على إيذاء العقول.
على الرغم من التذكير المستمر بأن الإنترنت قد يكون ضاراً للجميع، فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في ازدياد مستمر، حيث يبلغ متوسط الاستخدام اليومي للفرد حوالي ساعتين و30 دقيقة على مستوى العالم. فنحن حقاً عالقون في دائرة مفرغة حيث نعلم أن هناك شيئاً سيئاً ونرغب في التوقف، ولكننا نجد صعوبة في تحقيق ذلك.
العبودية الرقمية
لا يمكننا التوقف عن استخدام الإنترنت لأننا وضعنا تصوراً خاطئاً للمشكلة. إن وسائل التواصل الاجتماعي ليست إدماناً فردياً يمكن معالجته على المستوى الفردي، بل هي مشكلة مجتمعية تحتاج إلى حل مجتمعي. نحن بحاجة إلى التفكير في الإنترنت بشكل أقل كأداة لا يمكننا التوقف عن استخدامها بطريقة أو بأخرى، وأكثر كمصنع مطلوب منا أن نكون فيه.
لقد تمت إعادة صياغة مجتمعنا بأكمله حول الإنترنت، مثلما كان يتمحور حول المصنع خلال الثورة الصناعية. إذا حدث انقطاع في Amazon Web Services يتوقف جزء كبير من مجتمعنا عن العمل. بدون الإنترنت لن نتمكن من العثور على وظائف، أو حتى ـ في هذه المرحلة لن نتمكن من العثور على أصدقاء.
لقد تم تمكين "اقتصاد الأعمال المؤقتة" أي العمل الاستغلالي الذي يتقاضى فيه الأفراد أجوراً زهيدة في كثير من الأحيان عن طريق الإنترنت، فالآن يشارك أكثر من ربع العمال في الولايات المتحدة في هذا الاقتصاد بشكل ما.
لقد أصبح المطلوب من الجميع تقريباً أن يكونوا هنا – عبر الإنترنت – من أجل سبل العيش. ولكن حتى عندما لا يُطلب منا أن نكون هنا، تحاول الشركات التأكد من أننا لا نزال كذلك: يستخدم مطورو التطبيقات والألعاب نفس الاليات الذي يجعل الأشخاص يلعبون ماكينات القمار في لاس فيغاس لإبقائنا ملتصقين بشاشتنا.
وكما كتبت الباحثة الأسترالية في مجال الثقافة والإعلام ماكنزي وارك في كتابها "مات رأس المال: هل هذا شيء أسوأ؟" فإن الإنترنت يستخدم عملنا دون أن ندرك ذلك بالفعل. وعلى عكس عصر البث الإعلامي حيث كان على مالكي شبكات التلفزيون و استوديوهات الأفلام إنشاء محتوى لبيعه لنا على الأقل، فإننا الآن ننشئ كل المحتوى لبعضنا البعض، دون أن يُدفع لنا في الغالب.
إن شركات التواصل الاجتماعي مثل Facebook لا تكلف نفسها عناء تقديم أي ترفيه، كما كتبت وارك. "علينا أن نسلي بعضنا البعض، بينما هم يجمعون الإيجار، وهم يجمعونها في جميع أوقات وسائل التواصل الاجتماعي، العامة أو الخاصة، العمل أو الترفيه، حتى عندما تنام."
نحن ننتج الصور، والموضوعات، والتغريدات، والمشاركات التي تبقينا مرتبطين بالإنترنت، ثم يتم تحقيق الدخل من هذا المحتوى في شكل إعلانات – يساعد المستخدمين في تحقيق الإيرادات، ولكنهم لا يحصلون عادةً على فلس واحد منها.
على الرغم من أن عدداً محدداً جداً من مستخدمي الإنترنت يمكنهم الحصول على أموال مقابل عملهم – أي المؤثرين أو مستخدمي YouTube المشهورين – إلا أن معظمنا لا يفعل ذلك. إذا كانت وسائل التواصل مصنعاً، فهو مصنع لا يحصل فيه الغالبية العظمى من الناس على رواتبهم. وبدلاً من ذلك، يتقاتل المستخدمون في كثير من الأحيان مع بعضهم البعض من أجل الحصول على مدفوعات غير نقدية في شكل نفوذ – الاعتراف بأننا قادرون على إنتاج أكبر قدر من المحتوى وأفضله مجاناً.
في بعض الأوساط من المجتمع، حلت هذه العملة المؤثرة محل أجور التصنيع، خاصة بالنسبة للمهنيين الذين اعتادوا على كسب عيش منظم من المحتوى المدفوع والذين يقومون الآن بنشر عناوينهم الثانوية على نطاق واسع على أمل تأمين مصدر رزق مناسب من الاسم والاعتراف.
وقد أدت هذه العمالة المجانية أو الرخيصة إلى اتساع فجوة التفاوت في الدخل بشكل كبير وفقاً لبعض المنظرين. نحن نناضل من أجل الحصول على المتابعين، وإعادة التغريد، والإعجابات، كل ذلك مجاناً، بينما تحقق المنصات أرباحاً هائلة. ولا يجمع هذه الأرباح سوى عدد قليل جداً من الشركات الكبيرة. ما يقرب من 70٪ من إجمالي الإنفاق على الإعلانات الرقمية يذهب إلى Google أو Facebook أو Amazon.
إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مثل النظام الإقطاعي، ونحن الفلاحون الذين يُستغلون فيها. في هذا العصر الرقمي، ننتج محتوى يومياً، نسهم في بناء هذه المنصات من خلال مشاركاتنا وتفاعلاتنا، ولكننا لا نحصل على أي مقابل مادي. بينما تجني الشركات الكبرى أرباحاً هائلة من عملنا المجاني، تماماً كما كان الإقطاعيون يجمعون الثروة من عمل الفلاحين. هذه الشركات تعتمد على إدماننا وإبقائنا متصلين باستمرار لتحقيق أرباحها، مما يعزز الفجوة الاقتصادية ويزيد من عدم المساواة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.