لا أحد ينكر أننا نعيش حالياً أوقاتاً استثنائيّة، فبلا مقدّمات عريّ هذا العالم وحقيقته المغيّبة بالايديولوجيا الاستعمارية الغربية وأدواتها، وفي سياق الحرب الظالمة التي تُشن على غزة، تبرز أهمية استحضار فكر المثقف والمناضل فرانز فانون، الذي عايش ودرس الأوضاع الصعبة التي يخلقها المستعمر القاسي، وفهم بعمق آلام المستضعفين الذين انتُزعت منهم حقوقهم الأساسية ومقومات حياتهم.
وأنبل ما في فكر فانون، أنه من الصنف الذي يسمح ببعثه في أيّ لحظة، بل يبدو كأنه وجد لمخاطبة مرحلته والمراحل التي تليه. وكما أن كتب فانون ترقى إلى مستوى "النصوص المتحرّكة"، وكما أنه يسعف، بأكثر من معنى، على أن نفهم محيطنا وأنفسنا والظروف التي نمرّ منها فالأوضاع الاستعمارية لم تتغيّر، وأوضح ذلك أكثر بـاستعمار محلي، أقل كلفة ترتبط مصالحه الثقافية والسياسية والاقتصادية بالاستعمار الخارجي، عن طريق إطار من ديباجات النعرات القومية والقبلية القطرية الضيقة المصنوعة.
ولد فرانز فانون في جزر المارتينيك، وتلقى تعليمه في فرنسا، وكرّس السنوات الأخيرة من حياته للثورة الجزائرية. خلال الموجات الثورية في الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، قرأ مئات الآلاف حول العالم أعماله وأشادوا بها. ولكن مع تراجع تلك الموجات، وانحطاط العديد من الأنظمة الثورية السابقة إلى ديكتاتوريات، وانتشار النزعة الليبرالية الجديدة، أصبح من مصلحة أولئك الذين في السلطة، سواء كانوا بيضاً أم سوداً، أن يظل فانون في طي النسيان.
ففكر فانون يتميز بانفتاحه ونظرته المستقبلية، حيث أن الظروف التي عاشها لا تزال قائمة اليوم بأشكال متعددة، خاصة فيما يتعلق بأهمية الثقافة في فهم العصر ككل. لقد كان فكر فانون ذو فائدة كبيرة في السياق الذي وُلد فيه في الخمسينيات وأوائل الستينيات، وهو سياق التطلع المحموم نحو التحرر من الاستعمار المباشر. كما يظل مفيدًا في السياقات التي تلت ذلك في العديد من البلدان الأفريقية وأمريكا اللاتينية.
على الرغم من أن حياة فرانز فانون كانت قصيرة، إذ لم تتجاوز ستة وثلاثين عامًا، إلا أن تأثيره كان عميقًا ومستدامًا. فعندما وصل فانون إلى الجزائر، كان شغفه السياسي منصبًا بشكل كامل على محاربة الاستعمار والعنصرية، وخاصة تلك التي تؤثر على السود ذوي الأصول الأفريقية. كرجل ذو بشرة داكنة، كانت هويته متشابكة بعمق مع معاناة هؤلاء الأفراد.
لكن في الجزائر، اكتشف فانون ضحايا للعنصرية والعنف الاستعماري آخرين لم يكونوا سودًا، بل عربًا يتعرضون لنفس القدر من الوحشية والاحتقار. وعندما اندلعت حرب الاستقلال الجزائرية، شهد فانون عنفًا استعماريًا أشد تطرّفًا مما رآه في جزر المارتينيك، مما جعله يدرك أن العنصرية الاستعمارية لا تقتصر على لون البشرة، بل تطال العرب بنفس القسوة.
بدأ فانون مشروعه الأول في مستشفى البليدة، حيث درّب الممرضين والأطباء على العلاج الاجتماعي، واهتم بفهم الخلفيات الثقافية لمرضاه في سياق ممارسته النفسية. من خلال هذا العمل، بدأ يلاحظ الجروح النفسية العميقة التي يسببها النظام الاستعماري لمقهوريه.
وخلال ممارسته الطبية، أصبح يرى ضحايا التعذيب بشكل شبه يومي. اكتشف شبكة سرية مرتبطة بجبهة التحرير الوطني الجزائرية، واتصل بهم بصفته طبيبًا نفسيًا في البداية. إذ كان يؤمن بفلسفة تتطلب الاتحاد العضوي بين الفكر والفعل، ورأى أن من غير المقبول أن يظل مسؤولًا في النظام الاستعماري خلال ثورة. لذاك، اختار فانون أن يخدم الثورة الجزائرية، فاستقال من الخدمة الاستعمارية في صيف عام 1956 وانضم إلى صفوف الثورة بعد ذلك بوقت قصير، مضحيًا بمسيرته المهنية من أجل قضية يؤمن بها بعمق.
ونظراً لتميزه في مجالات متعددة، ترك فرانز فانون انطباعًا يشبه ومضات البرق التي تتوالى خلال فترة زمنية قصيرة. فقد كان لكتاباته عن الاستعمار والعنصرية ومعاداة الإمبريالية تأثير هائل في جميع أنحاء العالم، وخاصة في بلدان الجنوب. فمن بين أبرز أعماله "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، و"استعمار يُحتضر"، و"نحو الثورة الأفريقية". إلا أن "معذّبو الأرض" يظل أحد أهم كتبه، إذ لا مثيل له في أدب مناهضة الاستعمار. إذ يتميز "معذّبو الأرض" بقدرته الفريدة على التعبير بذكاء وفعالية عن ضرورة وإمكانية القضاء على الاستعمار بكل تناقضاتها وإمكاناتها الفريدة.بذلك، ومن خلال استهدافه الاستعمار والدعوة إلى مجتمع متساوٍ جديد في المستقبل، استطاع فانون أن يعبر عن صوت جيل كامل من المثقفين الثوريين، مسلحًا إياهم بتوجيه نقدي قوي.
إن قراءة كتاب "معذّبو الأرض" تعد بمثابة دخول إلى عالم مليء بالانقسامات الاستعمارية، والصراعات الوطنية، والتوق إلى التحرر. يجمع النص بين النقد الديناميكي والشغف السياسي، حيث يغوص في أعماق التاريخ ويدين الظلم، مستخدمًا الحجج المنطقية والسخط الأخلاقي تجاه المعاناة. بهذا الأسلوب، ألهم فرانز فانون جيلًا كاملًا من الثوريين حول العالم لتغيير المجتمعات التي كانت تتحرر ببطء من السيطرة الاستعمارية. عبر تحديده للعنصرية والتبعية الهيكلية كمكونات رئيسية للمشكلة الاستعمارية، ورسمه لطريق إنساني للقضاء عليها، وضع فانون أسس سياسة التحرير التي لا تزال شروطها وأهدافها صالحة حتى اليوم.
لقد كان فانون ثوريًا بحق، لكنه كان أيضًا ثوريًا فلسفيًا، أعمق التزاماته الأخلاقية موجهة نحو الإنسانية جمعاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.