كانت مصادفة غريبة أن يقع ذلك الخلل في خوادم شركة مايكروسوفت بعد بضع دقائق فقط من انتهائي من المسودة الأولى لهذه المقالة، وكأنما كان ذاك توقيعا من يد القدر على صحة ما أقول. خلل صغير في خوادم الشركة التي تقدم خدمة الحوسبة السحابية، لكن ذلك الخلل الصغير تسبب في إرباك كبير وشلل وخسائر تأثرت بها جهات عديدة حول العالم ما بين شركات طيران وخدمات صحية بل وحتى بعض وسائل الإعلام الكبرى حسب الحصيلة الأولية. صحيحٌ أنه من غير الواضح بعد ما هي طبيعة هذا الخلل أو ما الذي أدى إليه، فلم تتضح بعد تفاصيل الخلل وما حدث حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، وربما في النهاية نكتشف أن المشكلة هذه المرة لم تكن متعلقة مباشرة بخدمة الحوسبة السحابية من مايكروسوفت، ولكن يظل الأمر في النهاية مؤشراً واضحاً يدعم الحجة التي أسوقها هنا.
إن مما لا شك فيه أن خدمات الحوسبة السحابية تقدم العديد من المميزات للمؤسسات والأفراد معاً، وللتوضيح لمن يبدو له المصطلح غامضاً فالحوسبة السحابية هي خدمة مقدمة من مزود ما يوفر عند الطلب أنظمة حاسوبية متكاملة عبر الإنترنت لا تتقيد بالموارد المتوفرة للمستخدم محلياً، حيث تكون البيانات والبرامج الخاصة بالمنشأة أو المستخدم عموماً موجودة على جهاز الخادم عند مقدم الخدمة وتتواصل معه الأجهزة الأخرى للوصول إليها وتنفيذ إجراءاتها. للتبسيط يمكنك أن تعتبر جميع مواقع الإنترنت شكل من أشكال الحوسبة السحابية من حيث أصل الفكرة ولكن الاستخدام الفعلي للمصطلح أعمق وأعقد من ذلك قليلا من الناحية الفنية والتقنية. وبعيداً عن التعقيدات الفنية فما يهمنا هنا هو حقيقة أن المنشأة حين تقرر استخدام الحوسبة السحابية فإن بياناتها وأنظمتها تكون في الغالب مستضافة على خادم تقدمه شركة متخصصة في توفير هذه الخدمة، وبالطبع فإن الشركات الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً هي المهيمنة على سوق توفير هذه الخدمة.
إن خللا صغيرا في أحد هذه الخوادم يمكن أن يكون له ذلك الأثر الكبير الذي شهدناه واستمر لساعات على مستوى العالم. والسؤال هنا هو إذا كانت بياناتنا وأنظمتنا مستضافة على خوادم هذه الشركات بحيث أننا صرنا نعتمد على الخدمة التي تقدمها إلى هذا الحد، فما الذي يمكن أن يحدث في حالة وقوع نزاع سياسي ما وتُمنع هذه الشركات بأوامر سيادية من تقديم خدماتها إلى بلدٍ ما. هل يمكن أن تتخيل حجم الكارثة التي سيواجهها ذلك البلد؟
في الظروف العادية تكون هناك عادة قواعد وعقود قانونية تضمن عدم حدوث ذلك، ولكن حين يجدُّ الجَدُّ فكلنا يعرف أن ذلك سيتحول إلى مجرد حبرٍ على ورقٍ، وأن القوي سيفرض كلمته.. فإذا كان السفاح مجرم الحرب المطلوب للعدالة الدولية سيُستضاف بعد عدة أيام ليخاطب الكونجرس كبطلٍ يُصفق له المشرعون الأمريكيون، فعن أي احترامٍ لأي قوانين أخرى يمكنك أن تتحدث حين تقتضي مصالح الأقوياء ذلك!
تقوم بعض الدول باتخاذ بعض الاحتياطات فيما يتعلق بالمنشآت الحيوية في البلاد وما يمكن أن تتعرض له من مخاطر نتيجة لذلك عن طريق إلزام هذه الشركات بتوفير خوادم محلية وبعض الضمانات التي وإن كانت ليست دائماً كافية ولكنها قد توفر حداً أدنى من الضمان. ومع ذلك، فما لم يكن مالك التقنية محلياً فإن الأمر يظل ثغرة يمكن النفاذ منها في النهاية. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فالأخطر الذي لا يبدو أن أحداً يلتفت إليه حتى هذه اللحظة، هو أن الاقتصاد في العالم كله الآن يتحرك بخطوات متسارعة بحيث تصبح الحوسبة السحابية في القلب منه، وهناك نقطة ربما لا تكون بعيدة حيث سيصبح الجزء الأكبر من الحركة الاقتصادية في أي دولة معتمداً بشكل أو بآخر على هذه الخدمات، وأغلب هذا الاقتصاد قائم على منشآت خاصة لا تتمتع بنفس هذه الضمانات التي ربما تحصل عليها المنشآت الحيوية، ولا يحميها من تغوّل مقدم الخدمة عليها سوى حفنة من القوانين على الورق قد تُشطب بجرة قلم بقرار سياسي هنا أو هناك، والنتيجة حينها شلل اقتصادي شبه كامل لا يلبث أن يتحول إلى انهيار كارثي. فبغض النظر عن مقدرة مقدمي الخدمة على الاطلاع وتحليل بيانات اقتصادك بشكل أو بآخر، بل وقدرتهم على استنباط الكثير من المعلومات الاستراتيجية المهمة عن الدولة وأفرادها، خصوصاً مع تطور تقنيات التحليل بواسطة الذكاء الصناعي، بغض النظر عن كل ذلك، فإن بإمكانهم أن يوقفوا جزءاً كبيراً من ذلك الاقتصاد ببضع ضغطات على لوحة المفاتيح إن هم قرروا فعل ذلك.
إن تأثير امتلاك مثل هذه القوة يشبه امتلاك قنبلة نووية اقتصادية موجهة نحوك ومسلطة عليك،
وبالتأكيد فإن السعي المحموم للحصول على مثل هذه القوة والنفوذ المدمر لا يحدث عبثاً أو صدفة.
إن وجود عددٍ كاف من مقدمي خدمات الحوسبة السحابية المحليين الذين يقدمون خدماتها للجميع محليا ويملكون التقنية اللازمة بشكل كامل ومستقل عن أي جهات خارجية أصبح ضرورة للأمن القومي لكل دولة، وأولها بكل تأكيد دولنا العربية التي تشهد سعياً محموماً غير شريف من الشرق والغرب للسيطرة عليها وعلى مقدراتها ومصادرة حريتها وقرارها. وما لم تقم الدول العربية على الفور بتوفير كل ما تحتاجه مثل هذه الشركات المحلية من ناحية التسهيلات القانونية والاقتصادية والدعم المعنوي والدعائي لتبدأ وتنمو وتكون قادرة على المنافسة مع المزود الخارجي للخدمة، فإننا سنستفيق خلال بضع سنوات تُعد على أصابع اليدين وربما اليد الواحدة لنجد سكيناً جديدة منصوبة على رقاب شعوبنا و مقدراتها تُضاف إلى كل السكاكين الأخرى التي تُدميها أصلاً…
ألا هل بلغت … اللهم فاشهد…
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.