كتاب "نهاية عصر القوة" من تأليف موسى نعيم، المفكر والكاتب الصحفي الليبرالي الذي ذاع صيته في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، كما شغل مناصب رفيعة حيث عمل مديرًا تنفيذيًا للبنك الدولي ووزيرًا للتجارة والصناعة في فنزويلا.
صدرت الطبعة العربية من الكتاب في العام 2016 عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. يتناول المؤلف ظاهرة اضمحلال القوة وتراجع النفوذ المتولد من مزاولة السلطة، إذ لم يعد تولي مناصب المسؤولية يمنح صاحبه ذلك القدر الهائل من القوة التي يتصورها، فقد أمست قاعدة المنافسة على مناصب السلطة في ميادين السياسة والاقتصاد ومجالات أخرى أكثر اتساعًا بسبب ظهور منافسين وفاعلين جدد. فما هي تجليات وأسباب ونتائج تلك الظاهرة؟
أولًا: مظاهر تراجع القوة
في المجال السياسي، يشير المؤلف إلى المعطى المتمثل في تراجع نفوذ الأحزاب الأيديولوجية التقليدية من اليمين واليسار لصالح أحزاب صاعدة ذات أساليب واتجاهات فكرية جديدة (كالأحزاب البيئية واليمين المتطرف)، الشيء الذي أدى إلى توزيع القوة السياسية على فاعلين متعددين، إذ أمسى من الصعب على حزب سياسي بمفرده تشكيل أغلبية واضحة تتيح له الحكم بأريحية. هذا بالإضافة إلى تعدد مستويات اتخاذ القرار وظهور سلطات تنفيذية وتشريعية جديدة في إطار اللامركزية والحكم المحلي، دون إغفال صعود عينة جديدة من السياسيين الشعبويين الخارجين عن النموذج النمطي نظرًا لافتقارهم إلى صفات الرزانة والتعقل واللباقة في الحديث.
مرورًا بالقطاع العسكري، فقد أضحت الحروب الحديثة بهذه الدرجة أو تلك متوازنة بين أطرافها حتى مع فارق الإمكانيات الهائل، كالحالة التي يتواجه فيها جيش نظامي مدجج بأحدث الأسلحة مع ميليشيات غير نظامية تملك أسلحة ذات تكلفة مادية زهيدة ومكونة من مواد بسيطة، ولكنها مع ذلك قادرة على إحداث أذى كبير بخصومها واستنزافهم بسبب إتقانها لتكتيك حرب العصابات، مما يُبرز التغير الذي طرأ على معادلات القوة في الميدان العسكري، فضلًا عن بروز دور الشركات العسكرية الخاصة التي باتت تضطلع بأدوار مهمة في الحروب الحديثة.
وصولًا إلى عالم الاقتصاد والأعمال، حيث لم يعد في وسع المدراء التنفيذيين للشركات البقاء في مناصبهم لمدد طويلة بسبب الضغوط والانتقادات المستمرة من طرف حاملي الأسهم والمستهلكين، بالإضافة إلى صعود نجم الشركات الناشئة بما في ذلك تلك المنتمية إلى القوى الاقتصادية الصاعدة (البرازيل، الهند… إلخ) التي بدأت تزيح شيئًا فشيئًا الشركات التقليدية الكبرى وتزاحمها في نشاطاتها. كما أن البنوك لم تعد تهمين على القطاع المالي والاستثمارات كما كان عليه الحال من قبل، إذ ظهرت صناديق التحوط الاستثمارية التي تسيل لعاب المستثمرين.
ثانيًا: لماذا انحسرت السلطة وضعف تأثيرها؟
يورد موسى نعيم جملة من الأسباب التي أفضت إلى اضمحلال القوة واتساع قاعدة التنافس على السلطة كالثورة التكنولوجية وطفرة الإنترنت، وانتشار التعليم والمعرفة. وعمومًا، يفسر الكاتب هذا التحول الحاصل بثلاث ثورات محورية كان لها مفعول كبير في حدوث هذه الظاهرة: ثورة الوفرة، ثورة التنقل، ثورة العقليات.
ثورة الوفرة:
تزايد عدد السكان الذين يعيشون حياة مادية مستقلة ولائقة مما يصعب من محاولة تطويعهم والسيطرة عليهم.
ثورة التنقل:
– التأثير الذي أضحى يمارسه المهاجرون لجهة اختيار القادة وصياغة توجهاتهم، إذ يدين الرئيس أوباما مثلًا بالفضل في صعوده لنقابات العمال المهاجرين والأقليات اللاتينية.
– دور الهجرة في تعزيز التعددية الثقافية والدينية.
– تزايد أعداد قاطني المدن على حساب سكان الريف، مع ما لذلك من إسهام في خلق طبقة وسطى ذات قدرة استهلاكية عالية مما يخلخل بشكل متواصل موازين القوى التقليدية.
ثورة العقليات:
إن توقعات الناس في كل أصقاع العالم باتت أعلى من ذي قبل بسبب تلاشي الحواجز المعرفية وثورة المعلومات التي يَسَّرت عملية عقد المقارنات، إذ باتت الطبقات الوسطى الناشئة بالدول النامية تتوق إلى مستوى معيشي شبيه بذاك الذي تتمتع به الدول المتقدمة، الأمر الذي أنتج ثورة في العقليات تجسدت في تراجع نسب التقدير والخضوع للسلطة والأعراف الاجتماعية والثقافية السائدة سواء في الدول المتقدمة أو النامية.
ثالثًا: آثار ونتائج تراجع القوة
أدى اضمحلال القوة وتراجع تأثيرها إلى آثار إيجابية من ناحية تعزيز الحرية السياسية، بالإضافة إلى تقليل الاحتكارات ومنح فرص أكبر للاستثمار وخيارات أوسع للمستهلك في الجانب الاقتصادي. لكن ذلك التحول كانت له أيضًا تداعيات سلبية على أكثر من صعيد نجملها كما يلي:
– الشلل الذي يتهدد السلطة التنفيذية للحكومات من حيث عجزها عن اتخاذ القرارات الحازمة والمناسبة بسبب القيود المؤسسية المتضخمة، والاستقطاب السياسي الشديد الذي يولد الجمود.
– بروز قوى التطرف السياسي ذات النزعات المعادية للانفتاح على العولمة والهجرة.
– صعود نجم وسائل الإعلام الجديدة المنفلتة من طرق الرقابة والضوابط المهنية التقليدية، الشيء الذي أدى إلى انتشار التضليل والدعاية الكاذبة.
– صعوبة حل القضايا الدولية المعقدة التي تتطلب حدًا أدنى من التسويات والتنازلات المتبادلة (كالمناخ وانتشار أسلحة الدمار الشامل) بسبب توزع القوة بين مجموعة من الفاعلين الدوليين وتباين أجنداتهم.
– صعود ما يسميهم الكاتب ب "التبسيطيين المرعبين" الذين يطلقون للناس وعودًا براقة وغير واقعية، مثل السياسيين الذين يعدون بحل مشكلة العجز المالي دون رفع الضرائب، أو دعاة التكنولوجيا المتطورة الذين يعتقدون أن الأخيرة قادرة على حل جميع المعضلات البشرية.
وبناء على ما تقدم، يتعين إيجاد نقطة توازن بين الاستبداد والتركيز المفرط للقوة لدى أقلية من الناس من جهة، وبين انحسار القوة وتداعيها الذي ينذر بخطر الفوضى وله ذيول سلبية على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة ثانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.