ليس العلم ما قد حفظت، إنما ما قد فهمت، ومن ثمَّ فَهَّمْتَ غيرك ما قد فهمته. ليست درجاتك وتقديراتك هي من تجعل منك الشخص الأمثل، إنما ما وعَيتَهُ من علم ومعرفة وفهم. ليس كل شيء يُدرَس بالتبعية مطلوب لأن تعمل به أو تشتغل به فيما يتعلق بتخصصك المهني.
أسلوب التعليم ليس في الحفظ فقط، وليس كذلك في الفهم بلا وعي وإدراك ومتعة!
نعم، متعة التعلُّم، دعنا نسألك؛ ماذا لو شاهدت مسرحيةً كل أبطالها هم الذرات وقت تفاعلها واتحادها لتكوين مركب معين؟! ماذا عنك، قارئي العزيز، لو شاهدت "ذرتي هيدروجين" يحضُنان "ذرة أكسجين" ليكونوا جزيء الماء؟! الأمر ممتع لا محالة!
إن من أهم أساليب التعليم هي تبسيط الصعب ليصير سهلاً، وتسهيل اليسير ليصير أسهل. التعليم هو تلقي المعلومة ودراستها فهماً وحفظاً، وليس فقط مجموع درجات وتقديرات هي من تفيد بأن من تعلَّم هذا قد وعَى وقد فهم وقد ظفر علماً ومعرفة! إنما التعليم هو الاستمتاع بالفعل، ليس من أجل المتعة فقط! بل من أجل أن تصل وتستقر المعلومة في مكانها الصحيح عقلاً وذاكرة وفهماً.
لماذا لا نقدم التعليم كفقرات تمثيلية تساعد الطالب والمتلقي على فهم المعلومة واستقرارها في عقله وذهنه؟ ماذا عن "سينما العلوم"؟ وماذا أيضاً عن تبسيط المعقد من العلوم ليصير سهلاً واضحاً للطالب؟!
مهلاً عليك، قارئي العزيز! ليس العلم في المطلق هو ما قد ينطبق عليه الاقتراح سالف الذكر! بل إن للعلم قدسيته، والصمت والأدب والاحترام في حرم العلم ومحراب المعرفة والتحصيل واجب وضروري. إنما نقصد من مجمل كلامنا هذا أن نساعد على الفهم أكثر، ولا سيما لشباب العلم الصغار، والأطفال، والنشء. فبدلاً من أن يَمَلَّ الطفل أو الناشئ من صعوبة التعليم، وربطه بالدرجات والتي من المرجح أن تضمن له مكافأة والده أو أمه لكل درجة متميزة، والسؤال هنا… ماذا تعلَّم؟ وماذا سوف يتذكر؟
لعلنا نأسف شزرًا، يا قارئي العزيز عما سوف تجيبنا به! لعلك تود أن تقول… "لا شيء".
هناك فارق كبير بين أن يتعلم الناشئ أساس القراءة والكتابة والفهم والتحصيل، وبين ما يزيد عن ذلك من علوم وتكنولوجيا، إلخ…
نقصد من كلامنا أن العلوم والتكنولوجيا ليست بالمعقدة وليست بالمملة، إنما طريقة تقديم المعلومة وتعليمها هي المملة في ذاتها! ليس على النظرية أو الاكتشاف أو الاختراع ومبادئه وكيف تم، إلخ… أن يشرح ذاته بذاته! أيُّ أمرٍ هذا الذي تعتقدُ؟! إنما من يشرح هو المُلقي أو المُعلم ذاته وليس ذات الشيء المشروح حقاً.
ماذا عنا لو أننا قدمنا الشرح النظري للطالب، وعززناه بشيء من الدراما والسينما أو الڤيديوهات التوضيحية بشكل ما أو بآخر، ولكن بما يليق بقدسية العلم والمعرفة والثقافة والمعلومات العامة، إلخ… أيٌّ مجهودٍ هذا الذي على الطالب أن يفعله إذا هو لم يفهم؟! حقاً إنه لمجهود عظيم!
استمتع بالعلوم والتكنولوجيا، استشعر لذة العلم، عِش التجربة وكأنها أنت، نعم، أنت التجربة. مثال ذلك، إن كنت تقرأ عن خواص المادة، وكيف تتحد الذرات، وكيف يتكون الجزيء، وكيف للمركب كذلك، إلخ… صدقنا، قارئي العزيز، كُن أنت الذرات، كُن أنت التفاعل، كُن أنت الشيء ذاته.
أراك وقد ابتسمت للتو، إما مُتعجِباً، وإما ساخراً، فأما وإن كنت كالأول، فلا عجب في وقتٍ نحن في هذه الضرورة المُلحة لذلك، وإن كنت كالثاني، فهذا ما يجعلنا لا نفكر في السؤال الأهم، لماذا لا نطبق؟! وبالتبعية كيف نطبق؟!
ليس التعليم، كما أشرنا في مفتتح كلامنا، هو أن تتعلم المعلومة وتفهمها وتتأكد من فهمك الجيد والمطلق لها! بل، ماذا لو سُئِلتَ عنها؟ وناقشك أحدهم فيها؟ ماذا ستشرح وستجيب؟!
هذا السؤال يكفي أن يجعلنا نفكر بشكل جادٍ في الأمر، فالأمر إلينا فلننظر ماذا سنفعل!
إن من أشهر نظريات التعليم في علم النفس، هي النظرية السلوكية والنظرية البنائية. هذه النظرية السلوكية تعتمد على السلوك المرئي والعلاقة بين المحفزات والاستجابات. فمثلاً لو أن هناك ڤيديو تبسيط أو تجسيد أو تمثيل لهذه النظرية أو الاكتشاف أو المبدأ العلمي، وكذلك المعلومة العلمية، فإن ما سوف يراه المتعلم "طالب أو باحث عن المعلومة" من مثل هذه المقترحات سالفة الذكر، سوف يعود بشكل تحفيزي على سلوكه الشخصي تجاه الشيء المعروض أمامه، والمقصود أن عقله هو ما سوف يستجيب للفهم بمساعدة شعوره بالاندماج أكثر وأكثر ليتعمق في علم تتبعه هذه المعلومة التي يراها مُمَثلة أمامه.
بعد ذلك تأتي النظرية البنائية، وهي طبقاً لعلم النفس، تعتمد على ما يتفاعل معه المتعلم أو طالب العلم فيما يُشرَح له، بمعنى أن الخطوة الثانية، وإذا افترضنا أنها خطوات وليست فقط نظريات، فبعد خطوة السلوك الأولى، تأتي خطوة التفاعل، أي التفاعل مع ما يراه، أو يشاهده، أو يسمعه، إلخ… مثل تفاعل الإنسان مع البيئة التي تحيط به، فمثلاً هذا الصوت هو صوت كذا، وهذا الرسم هو لكذا، إلخ…
علاوةً على ذلك، نرى أن هناك نظرية أخرى من نظريات التعليم في علم النفس، وهي نظرية التعليم المعرفي، أي هي خطوة إذا اعتبرنا أنها خطوة تطبيقية وليست فقط نظرية، تعتمد على المعرفة للشخص المتعلم أو طالب العلم ذاته، بمعنى أنها عبارة عن مجموعة من الاستراتيجيات المُحكَمة، والتي تعتمد على الشخص ذاته في التحليل والمنطق والتفكير حول ما تلقاه.
عودًا إلى ذي بدء، فلو اعتبرنا أننا قد استبعدنا كلمة "نظرية"، لنعتبرها "خطوة"، بالتبعية سوف نرى أن هناك ثلاث خطوات، وهم… العرض "ونتيجتها السلوك"، البناء "ونتيجتها التفاعل"، وأخيراً المعرفة "ونتيجتها الفهم".
فلو لاحظنا… أن الخطوة الأولى والأهم، ليس فقط لأنها مهمة، بل أيضاً لأنها البداية، ومن المنطقي أن الأساس أو البداية هي شرارة الانطلاق في عمل أي شيء، الأمر كذلك منطقي لا محالة! نرى أنها تعتمد على إعطاء المعلومة، فلو أُعطِيَت المعلومة بشكل خاطئ، ناقص، أو غير مكتمل، فإنها سوف تسقط في مشكلة لتنفيذ الخطوتين الثانية والثالثة "البناء والمعرفة".
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لَيس العلم ما حُفِظ، إِنما العلم ما نَفع". وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما الفخر إلا لأهلِ العلمِ إنهم على الهدى لمن اِسْتَهدَى أدلاء، ووزن كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهلِ العلمِ أعداء".
ليس تعليمنا أن نحقق -كما أشرنا سابقاً- أعلى الدرجات، أو حتى التباهي بها إذا نحن قد حصلنا عليها بالفعل، فهذا هو الطبيعي! المقصد بالطبيعي أننا نحصل على الدرجات النهائية بالتقييم بالفعل، وليس إنجازاً يدعو للتباهي أو الفخر، فليس من الطبيعي أنك تتعلم لتفشل! فما الذي يجبرك على التعليم ومشقته وإن كنت لا تريد الفهم والاستيعاب والحِنكَة؟! فليس المقصود بكلامنا هذا أننا لا نريدك أن تحتفل بإنجازاتك! كلا، بل دعنا ندفعك ونشجعك على هذا بالفعل، لتُلهِم الآخرين من باب النُصح والإرشاد والتوجيه، إلخ… وإنما الغيرُ طبيعي هو أنك تبذل مجهوداً، وسهراً، وسفراً، وتعباً، إلخ… وفي النهاية لا تفهم وتستوعب ما تتعلمه! فلماذا المجهود أصلاً؟! فليس الحفظ المُطلق هو مقياس سلبي للغير علميين، وليس الفهم ومهارات الحل والتفكير العليا للعلميين! فكلنا في محراب العلم حافظون فاهمون، فقط إن عزَّمنا العقد، وصدقنا النية لأن نكون طلاب علم حقيقيين، وليس للتباهي بكوننا خريجي جامعة كذا بتقدير كذا، لماذا إذاً؟! وإنما العقول هي ما نقيس به أهل العلم، وطرحهم، وإنجازاتهم، إلخ.
فعوداً إلى ذي بدء، فإن الفهم عنصرٌ أساسي في التعليم والتحصيل، فلماذا لا نُسهِّل الفهم بأن نلتزم بمعايير الآداب والاحترام في محراب العلم ومكان الدراسة، ونستخدم سينما العلوم، ونبسط العلوم للنشء والأطفال والشباب الصغير؟!
المعلم هو خير للطالب، وطريقٌ مُمَهدٌ له لأن يفهم، فإن لم يكن المعلم يفهم تفاصيل المعلومة، وكيف يُبسطها، فأنى لمن يتعلم أن يدرك الحقيقة ويتحرى الفهم؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.