لطالما عُدَّت الأرجنتين من ضمن عمالقة كرة القدم العالمية، بتحقيقها إنجازات باهرة عبر العقود. لكن في السنوات الأخيرة، ألقت سلسلة من الإخفاقات والخيبات الأليمة بظلالها على المنتخب الوطني، حيث بدا وكأن إرث النجاحات السابقة قد تبخر في مهب الرياح. إلا أن الفصل الجديد بدأ يُكتب بمجرد تسلم ليونيل سكالوني مهام التدريب في عام 2018، وتحت قيادة ليونيل ميسي، القائد الاستثنائي في الملعب، عاد الأمل ليجد له مكاناً تدريجياً في قلوب الأرجنتينيين. فشهدنا، منذ ذلك الحين، نهضة ملحوظة تعيد صياغة مستقبل كرة القدم الأرجنتينية، فاستعاد الفريق بريقه وتألقه بعد عقود من الخيبات والإخفاقات.
تحديات البدايات وإنجازات سكالوني
في 2018، وعلى وقع خروج مؤسف من كأس العالم، تسلَّم سكالوني دفة تدريب الأرجنتين في ظروف تحفها التحديات. كانت المهمة تبدو غاية في الصعوبة؛ فالفريق يعاني من فقدان الانسجام وتراجع ملحوظ في الأداء. على الرغم من وجود أسماء بارزة في صفوف التانجو، بقيادة الأسطوري ليونيل ميسي، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لتشكيل كتيبة منسجمة تعيد للمنتخب هيبته.
كانت الشكوك تحوم حول قرار تعيين سكالوني، لاسيما بسبب خبرته المحدودة مقارنةً بأسلافه الذين لم يفلحوا في تحقيق الأمجاد، بمن فيهم الأسطورة مارادونا، وسامباولي، وسابيلا الذي كان على مقربة من التتويج بكأس العالم 2014. ومع ذلك، تمكَّن سكالوني بفضل رؤيته الثاقبة وروحه القتالية من إعادة تشكيل الفريق، مستعيناً بمزيج من الشباب والخبرة، وقاد ببراعة عملية بناء فريق موحد تحت قيادة ميسي.
عندما تسلَّم سكالوني زمام المسؤولية في 2018، واجه فريقاً مثقلاً بالهزائم ومحبطاً من الإخفاقات المتتالية. بعزيمة لا تلين ونظرة فنية حادة، بدأ سكالوني في نسج خيوط الأمل من جديد، معتمدًا على مزيج من التكتيكات الدفاعية المحكمة والانسجام الجماعي المفقود. تمكَّن من تحقيق التوازن المثالي في الفريق، مما سمح لمهارات ميسي أن تتألق بكل جدارة. وعلى الرغم من الخيارات الصعبة بإبعاد بعض اللاعبين الكبار، أثبت سكالوني أنه يمكنه قلب الطاولة وفتح صفحة جديدة مليئة بالانسجام والإنجازات.
أمام سكالوني كان التحدي الأبرز هو توظيف ميسي، النجم الذي لم تكن إنجازاته الأوروبية كافية لإسكات صيحات الجماهير الأرجنتينية والضغوط الإعلامية. وبمهارة فائقة، عمل على توليف فريق يتكامل مع براعة ميسي، مستفيدًا من خبراته الواسعة وسحره المؤثر بكرة القدم لتجاوز تلك العقبات وقيادة الفريق نحو سنوات مرصعة بالانتصارات.
وبعد تجارب متعددة للاعبين محليين وأوروبيين، نجح المدرب ليونيل سكالوني في توظيف ليونيل ميسي بشكل مثالي ضمن الفريق، مما جعله يبدو أكثر انسجامًا وثقة من أي وقت مضى. بدأت النتائج الملموسة تظهر لراقصي التانجو عندما نجحت الأرجنتين في تحقيق أول بطولة لها في كوبا أمريكا، بعد تغلبها على البرازيل. في تلك البطولة، كان ميسي، الفائز بالكرات الذهبية، أفضل لاعب وهداف البطولة.
تحوّل الحلم إلى حقيقة، وأصبحت الجماهير التي كانت غاضبة والانتقادات التي كانت تلاحق ميسي وكتيبة الأرجنتين، إلى مدح وإشادة. جسدت ملامح البطولة قدرة سكالوني على قيادة الفريق نحو الأمجاد التي طال انتظارها من الأرجنتين. تحت قيادته، حقق المنتخب الأرجنتيني عدة إنجازات، من بينها كوبا أميركا في عامي 2021 و2024، بالإضافة إلى بطولة فيناليسيما 2022 وكأس العالم 2022 في قطر.
دور ميسي القيادي
لم يكن ليونيل ميسي مجرد قائد للفريق، بل كان النجم الأبرز الذي أعاد الثقة للاعبين والجماهير على حدّ سواء، ورغم الانتقادات التي طالته طوال السنوات الماضية، ووصفه بالمتخاذل، استطاع ميسي بفضل صبره وهدوئه وشغفه اللامحدود للعبة تحقيق النجاح مع المنتخب، وكان لسكالوني بلا شك دور كبير في تحقيق هذا الانسجام وتأسيس فريق يؤمن بقدرة ميسي على تحقيق الأمجاد الكروية لبلاده كما لناديه.
ولم يقتصر نجاح ليونيل ميسي مع المنتخب على تسجيل الأهداف وصناعتها فحسب، بل امتد ليشمل دوره الكبير في تحفيز زملائه ودعمهم في مختلف الجوانب. فلو أمعنّا النظر، نرى مدى التضحية والحب اللذين يبذلهما الفريق في سبيل المنتخب أولًا، ومن أجل ميسي قائدهم وأسطورتهم ثانيًا. هذه الحقيقة لطالما أكدها لاعبو سكالوني، حيث شهدنا اللاعبين يحتفلون مع قائدهم بعد تسجيل الأهداف، وكان آخر هذه الاحتفالات من لوتارو مارتينيز مع ميسي بعد تحقيق هدف الفوز الذي منح الأرجنتين لقب بطولة كوبا أمريكا قبل أيام.
لم يكن من الممكن للأرجنتين تحقيق ما وصلت إليه اليوم لولا الانسجام بين اللاعبين الشباب والمخضرمين. ومن بين هؤلاء دي ماريا، الذي أعلن اعتزاله بعد تتويج الأرجنتين بلقبها الأخير، بالإضافة إلى المدافع أوتامندي وباريديس، إذ كانت مساهماتهم حاسمة في تحقيق النجاحات.
وبهذا، أُسدِل الستار على مسيرة دي ماريا الدولية بالشكل الأجمل، فبعد مسيرة استثنائية حقق خلالها العديد من البطولات القارية، أصبح ثالث أكثر اللاعبين مشاركة مع المنتخب الأرجنتيني برصيد 154 مباراة خلال 16 عامًا، خلف الأسطورة ليونيل ميسي بـ186 مباراة، وخافيير ماسكيرانو بـ 147 مباراة.
لقد كان عودة الأرجنتين إلى منصات التتويج بعد عقود من الهزائم المحبطة مسعى لم يخلُ من التحديات، ولكنه تُوّج بالنجاح بفضل التآزر بين استراتيجيات سكالوني الحكيمة وبراعة ميسي. بهذه الشراكة، لم يسطروا فصلًا جديدًا في تاريخ الكرة الأرجنتينية فحسب، بل رسخوا أيضًا مكانتها في المحافل العالمية، مؤكدين أن العزيمة والتعاون يمكنهما بلوغ العجائب.
وفي النهاية، لم يكتفِ ميسي بمجرد العودة إلى القمة، بل طرق أبواب التاريخ ليكون لاعبًا استثنائيًا بمسيرة لا مثيل لها في عالم كرة القدم، محتلاً مكانًا يراه الأغلب الأكمل في تاريخ الساحرة المستديرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.