عبر القرن المنصرم، نسجت الكوفية الفلسطينية، بخيوطها البيضاء والسوداء، قصة ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية. بينما يعتبرها الفلسطينيون تجسيدًا لهويتهم الثقافية والوطنية، يراها البعض تهديدًا محتملاً. في ظل الاحتلال، تتحول حتى الكوفية، هذه القطعة البسيطة من القماش، إلى رمز معقد يفوق مجرد الزي التقليدي؛ إذ تتحول إلى جزء أساسي من رحلة النضال نحو التحرير والاستقلالية والحرية. وبالتالي، يستمر الفلسطينيون في ارتداء الكوفية ليس فقط لفائدتها العملية وقيمتها الثقافية، بل أيضًا كبيان سياسي جريء. فيصبح التعبير عن الهوية الفلسطينية بمثابة عمل مقاومة بحد ذاته، لتذكير العالم بوجود هذا الشعب والتأكيد على قضيته الوطنية وحقوقه السياسية، ولتسليط الضوء على نضالاته ومآسيه.
الكوفية، التي تُرتدى في مناطق عديدة من بلاد الشام والشرق الأوسط، برزت في العقود الأخيرة كرمز للهوية الوطنية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال. إذ بات يضعها المتظاهرون حول أعناقهم أو يغطون بها وجوههم في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين حول العالم. وتحولت الكوفية، التي كانت في الأصل لباس الرعاة والمزارعين البدو، اليوم إلى قطعة مميزة يتزين بها الثوار والناشطون المناهضون للاستعمار، بينما لا يزال كبار السن والمزارعون في فلسطين وبلاد الشام يستخدمونها كغطاء رأس تقليدي للحماية من الشمس والرمال.
تطورت الكوفية الفلسطينية، ذلك الغطاء التقليدي للرأس، من مجرد قطعة قماشية عملية إلى رمز ثقافي وسياسي بارز. اليوم، تتميز بنقش المربعات أو غصون الزيتون، بألوانها البيضاء والسوداء التي يشبهها البعض بشبكات صيد السمك. المعروفة أيضًا بأسماء مثل "الحطة" أو "الشماخ"، كانت في الأصل قاصرًة على الرجال، خاصة في البيئات البدوية والقروية، حيث كانت توفر الحماية من قسوة الظروف المناخية كالشمس الحارقة والعواصف الترابية. كما كانت تعكس الوضع الاجتماعي، إذ كان الفلاحون يفضلون الكوفية بينما كان الطربوش، القبعة الحمراء، رمزًا للأكثر حضرية من الطبقة المتوسطة والعليا.
في ثلاثينيات القرن العشرين، باتت الكوفية رمزًا وطنيًا ونضاليًا فلسطينيًا، بعد أن تلثم بها الثوار خلال الثورة التي قادها الشيخ عز الدين القسام لمقاومة القوات البريطانية والعصابات الصهيونية، كي لا تظهر ملامحهم. وعندما حظرت سلطات الاحتلال البريطاني الكوفية، بدأ جميع الفلسطينيين في ارتدائها لجعل التعرّف على الثوار أكثر صعوبة، فباتت رمزًا نضاليًا جامعًا لكل أبناء الشعب على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، وفي هذا دلالة على منح الشعب الفلسطيني شرعيته المطلقة للعمل النضالي، فرديًا كان أم جماعيًا.
خلال الستينيات، شهدت الكوفية الفلسطينية إحياءً كرمز قومي موحد، يعبر عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. في هذا الوقت، بدأت النساء أيضًا في تبني هذا الرمز، ملفوفات بالكوفيات حول شعورهن و أعناقهن، ليظهرن بذلك قوة وتحدي الهوية الفلسطينية. شخصيات بارزة مثل ليلى خالد، شادية أبو غزالة، ودلال المغربي، برزن في هذا السياق، حيث عكست صورهم الكوفية كرمز للنضال والتحدي.
في عام 1969، التُقطت صورة المناضلة ليلى خالد وهي تحمل بندقية وترتدي الكوفية كحجاب، مما جعل الصورة رمزًا قويًا يُظهر دور المرأة في حركة المقاومة الفلسطينية. هذه الصورة أكدت على أن المرأة الفلسطينية ليست فقط جزءًا من النضال، بل هي أيضًا عنصر فاعل ومُعطاء في المقاومة. استمرت ليلى في ارتداء الكوفية، مُلهمةً العديد من المناضلين حول العالم. بفضل جرأتها، بما في ذلك اختطاف طائرة TWA في عام 1969 وتحويل مسارها إلى دمشق لإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، أصبحت الكوفية رمزًا عالميًا للنضال الفلسطيني.
وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت عام 1987، عمد الشباب المقاوم إلى ارتداء اللثام على الوجه، من أجل مراوغة جنود الاحتلال، وإخفاء تفاصيل وجوههم، لتجنب الإيذاء والاعتقال، وإرهاب جنود الاحتلال الإسرائيلي خلال تجولهم في شوارع القرى والمدن المنتفضة، وقد لاقت هذه الطريقة رواجًا بين الشباب المنتفض والمطاردين من قبل الاحتلال، فتلثموا بالكوفية بشكل يبرز عيونهم لا غير.
وفي عام 1990، أظهر نيلسون مانديلا، الزعيم المناهض للفصل العنصري والرئيس الأول لجنوب أفريقيا، تضامنه العميق مع القضية الفلسطينية بارتدائه الكوفية حول رقبته، مما عزز من مكانتها كرمز للمقاومة والتحرر على الساحة العالمية.
ماذا تعني الكوفية للفلسطينيين
بالنسبة للفلسطينيين حول العالم، تمثل الكوفية جسرًا حيويًا إلى ثقافتهم، محملة بالمعاني والذكريات. يشبه ارتداؤها حمل المنزل على الكتف، حيث تعد الكوفية بمثابة بطاقة هوية، تعريف بقضية الفلسطينيين وتاريخهم وحقوقهم. إنها تحمل مشاعر الفخر والاعتزاز والانتماء، وتذكرهم بعائلاتهم وأجدادهم، وتعكس التطريز التقليدي للأمهات.
خلال الفترة التي حظرت فيها سلطات الاحتلال الإسرائيلي العلم الفلسطيني من عام 1967 حتى اتفاقيات أوسلو في 1993، برزت الكوفية كرمز قوي للنضال الفلسطيني. يشير تيد سويدنبرغ، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة أركنساس، إلى أن الرموز المرئية كانت ضرورية للفلسطينيين خلال هذه الفترة، حيث شكّلت الكوفية "التعبير البصري عن الهوية الفلسطينية".
الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، اعتمد الكوفية كرمز للنضال الفلسطيني، وكان نادرًا ما يُرى بدونها. عبر ارتدائه المستمر للكوفية، ساهم عرفات في نشرها عالميًا، حيث بدأ العديد من غير الفلسطينيين، وخاصة المشاركون في الاحتجاجات المناهضة للاستعمار والحرب والنضال من أجل العدالة الاجتماعية، بارتداء الكوفية كرمز للمقاومة والتضامن.
على الرغم من سعي الاحتلال الإسرائيلي وداعميه لوضع المقاومة الفلسطينية بجميع رموزها في خانة الإرهاب، حيث صنفت الولايات المتحدة منظمة التحرير الفلسطينية كمنظمة إرهابية، إلا أن الكوفية ظلت تحمل رمزية قوية للمقاومة والنضال ضد الاستعمار. فرغم الجهود المضنية لوسائل الإعلام الغربية لشيطنة الكوفية وذكرها في سياقات مرتبطة بالإرهاب أكثر من العدالة الاجتماعية، بدأ الطلاب والنشطاء المناهضون للحرب في جميع أنحاء العالم في تبني الكوفية الفلسطينية كجزء من الحركة المناهضة للحرب في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
ويقول سويدنبرغ إن الكوفية الفلسطينية تجاوزت العالم العربي في ذلك الوقت وأصبحت لباساً مفضلاً لدى المتظاهرين السياسيين ورمزاً للمقاومة، حيث ارتداها مناهضون للإمبريالية، مثل الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو. في ذلك الوقت، كان هناك تعاطف واسع النطاق مع النضالات ضد الاستعمار والمناهضة للإمبريالية في العالم النامي.
أصبحت الكوفية رويداً رويداً الموضة السائدة بعد ذلك. تشير لينغالا إلى مقال في مجلة Time من عام 1988 يناقش الكوفية الفلسطينية وعلاقتها بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت عام 1987. تقول لينغالا: "لم يكن مرتدو الكوفية الذين جرت مقابلتهم على دراية بأي انتماءات سياسية وبدلاً من ذلك ارتدوها كشيء للزينة والموضة".
ومع تصاعد حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة، تزايد عدد من يرتدون الكوفية حول أعناقهم حول العالم، ففي أغلب الاحتجاجات العالمية المؤيدة للفلسطينيين، عبر الملايين من المتظاهرين عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني من خلال ارتداء الكوفية. على الرغم من التضييق والعقوبات، مثل الغرامة التي فرضتها السلطات الفرنسية على أحد المتضامنين بقيمة 135 يورو لارتدائه الكوفية، فإن روح التضامن انتشرت بقوة في مدن العالم.
لذلك، يتمسك الفلسطينيون بالكوفية بشدة، معتبرين إياها قطعة أثرية توثق تاريخ شعبهم ورمزًا حيًا يبعث الأمل. ملابسنا وأوشحتنا تعكس تجربتنا وتاريخنا، وتمكننا من تصور فلسطين في الأزياء التي نرتديها. تلطخت الكوفية بدماء الشهداء والجرحى والمعتقلين، لكنها تظل رمزًا لمستقبل أكثر إشراقًا. في عالم يحرم الفلسطينيين من هويتهم الجماعية ويتنكر لحقوقهم التاريخية، تقف الكوفية كتذكير بأن الفلسطينيين يملكون تاريخًا وثقافة وتقاليد، وأنهم يستحقون حياة طبيعية وحقوقًا كاملة. لذا، استطاعت هذه القطعة من القماش الأبيض والأسود أن تستنهض الهِمم، وتوحد المجتمع، وتثير مشاعر الانتماء العميقة، مرتبطة دومًا بالتوق إلى الحرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.