يحتل عنصر "المكان" مكانًا متصدرًا في قائمة العناصر التي تأثرت سلبًا بالتحولات التوظيفية في عصرنا الحاضر، فاختلفت اختلافًا جوهريًّا عما كانت عليه في الماضي، فحين ننظر في تراثنا العربي؛ نجد أن العربي القديم اهتم بالمكان اهتمامًا بالغًا، فجعله رفيقًا له في أشعاره، وقرينًا ملازمًا لذكر المحبوبة في المقدمة الغزلية التي كان يفتتح الشاعر بها قصيدته، وشاهدًا ناطقًا في أغراض الفخر والهجاء وذكر الوقائع والحروب، لذلك كان ذلك العربي القديم -على اعتزازه وإبائه- يبكي إذا ابتعد عن موطنه المفضل، كما يذكر لنا امرؤ القيس [ت: 80ق.هـ] وهو يصف حال رفيق رحلته عمرو بن قميئة [ت: 85ق.هـ] حين اصطحبه معه إلى قيصر:
بكى صاحبي لما رأى الدَّرْبَ دونهُ *** وأيقن أنا لاحقانِ بقيصرا
وبعد أن جاء الإسلام ظل المكان محتفظًا بصدارته، إلى أن كثر اختلاط العرب بغيرهم نتيجة الفتوحات الإسلامية، وتمصير الأمصار، وانتقال بعض أهلها إلى الإقامة في بلاد العرب، وصاحَبَ ذلك بناء المدن والقرى، واختفاء حياة التنقل والترحال التي كان يعيشها العربي القديم، وأصبح الناس يعيشون في نسيجٍ واحدٍ، تحت ظِلال حضارة جديدة لها خصائصها ومعالمها المختلفة.
وفي هذه الحضارة الجديدة ازدهرت عند العرب علوم أخرى بجانب علومهم الأدبية التي برعوا فيها قديمًا مِن شعرٍ ونثرٍ؛ فظهرت علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه وما يتعلق بها من علم الأصول والعلل وغير ذلك، إضافة إلى علوم الفلسفة والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية، وكذلك العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها، وقد نبغ في جميع هذه العلوم عددٌ كبيرٌ من العرب وغيرهم؛ وهنا برز دور المكان من جديدٍ ولكن بشكلٍ مختلفٍ؛ فقد أصبح المكان عاملًا مؤثِّرًا في حصول العلماء -ومنهم الشعراء والأدباء- على مكانتهم التي يستحقونها أو يرجونها؛ فكان الشاعر الفحل أو الأديب البليغ أو العالِم المتصدر في علمه؛ إذا عاش بعيدًا عن العواصم والحواضر؛ لا يكاد يُلتفَت إليه؛ ويذكر لنا التاريخ أمثلة على ذلك؛ منها ما أورده ابن خلكان [ت: 681هـ] في وفيات الأعيان؛ أن "الحسين بن شعيب السنجي [ت: 427هـ]، لمَّا انصرف مِن عند الشيخ أبي حامد الإسفرايني [ت: 406هـ]؛ مرَّ بابن كج [ت: 405هـ]، فرأى ابن كج عِلمه وفضله، فقال له: يا أستاذ؛ الاسم لأبي حامد والعلم لك؛ فقال: ذاك رفعته بغداد وحطَّتني الدينور".
وربما كان ذلك لكثرة إقبال الناس على الحواضر والعواصم؛ وهو الأمر الذي يساعد في شهرة النابغين من أهلها، فكان ذلك عاملًا مشجعًا على إقبال النابغين من كل مكانٍ إلى هذه العواصم والحواضر، فوجد الناس بذلك من العلم ما يكفيهم مشقَّة التَّرحال في طلبه؛ فهم يعيشون في المدن الجاذبة لأهل العلم والفكر والإبداع، فمن عاش من العلماء بعيدًا عنها؛ لم يكن له ذِكرٌ، في الغالب.
وفي عصرنا الحاضر؛ أصبح الإعلام هو الذي يفرض أهمية المكان وإن كان ذلك المكان خامل الذكر في جميع الحضارات السابقة وانتهاء بحضارتنا الإسلامية التي فاقت كل حضارة، فقد أصبحت بعض القنوات الإعلامية تُضفِي هالةً من التَّبجيل على بعض المبتدئين والمتعالِمِين -رغم ضعفِهم- لا لشيءٍ إلَّا لأنهم من قاطني هذا المكان أو ذاك؛ الذي تحاول بعض الكيانات الدَّخيلة أن تروِّج له، مستغلَّة بعض الإعلاميين الضعفاء ممن لا عِلم لهم ولا خبرة، فتُزيِّن لهم أن ذلك المكان اشتهر قديمًا واحتلَّ الصدارة في بعض العلوم، أو نبغ فيه أحد القادة الفاتحين أو نحو ذلك، ثم تملي عليهم ما تريد من مدحٍ وإطراءٍ وتقديسٍ لذلك المكان؛ أملًا منها في صرف الأنظار إليه، وتعلُّق العامَّة به، مع أن الله لم يكتب لذلك المكان شيئًا له قيمة، أو حدثًا له أهمية؛ ربما القضية كلها تتعلق بالغزو الفكري الذي تعكف على تنفيذه مؤسسات كارهة للعروبة وللإسلام، وإذا كان بعضٌ أو كثيرٌ من هؤلاء الإعلاميِّين الذين يقعون في براثنهم؛ ليس لديهم قدرٌ كافٍ من العلم أو الثقافة؛ فالأدهى من ذلك أن بعض المحسوبين على العلم والثقافة ينساقون خلفهم ويشجعونهم، حتى نتج عن ذلك تقديسٌ أعمى لبعض الأماكن التي لا يُعرَف لها ما يستدعي شيئًا من التقديس؛ فلا هي بالأماكن الدِّينية المقدسة، ولا هي بالأماكن التي شكَّلت هويَّة العرب أو المسلمين يومًا ما، والمأساة الحقيقية في ذلك أنهم يتَّخذون من ثقافتهم الدَّخيلة مقياسًا، وقد جعلهم ذلك يظلمون الناس ويتنكَّرون لأفضالهم، حتى أصبحوا يحطُّون مِن مكانة العالِم المبدع لأنه ليس من أبناء أو سكَّان تلك القرية الأثرية -مثلًا- التي تقع في مدينة كذا؛ التي ينتمي إليها أولئك الإعلاميون ثقافيًّا، وهذا هو نهجُهم في كل أمرٍ يُسلَّطون عليه مِن قِبَل تلك الكيانات التي تستغلهم في عمليات الغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له بلادنا العربية والإسلامية؛ ذلك الغزو الذي يتم تنفيذ مخططاته بأيدي بعض الجاهلين الذين تم وضعهم في صفوف الإعلاميين لكي يروِّجوا لكل ما هو قبيح، ويحطُّوا مِن قدر كل ما هو جميل ونافع.
وعَوْدًا على بدءٍ نقول: إنَّ حُبَّ العربي القديم للمكان وحنينه إليه؛ لم يكن من أجل المكان ذاته؛ فقد كان معظمهم يعيشون على الترحال والتنقل؛ إنما كان شعورهم بالانتماء إلى هذا المكان أو ذاك من أجل ما شهده المكان من مواقف وأحداث تمثِّل جزءًا من حياتهم وتاريخهم، لذلك كان حب المكان أمرًا فطريًّا ومطلوبًا.
لكن ما سرُّ حبِّ العربي المعاصر لمكانٍ ليس أصيلاً ولا علاقة له بأي عنصرٍ من عناصر هويَّتنا؟! إن الأمر لا يعدو كونه محاولةً لِسَلخ العربي من هويَّته، والزَّجِّ به -ثقافيًّا وفكريًّا ووجدانيًّا- في أحضان أمكنةٍ غريبةٍ عنه، لذلك يسعون جاهدين من أجل تتويج أبناء تلك الأمكنة الأعجمية بشهادات النبوغ والتفوق في علوم العرب وثقافتهم، وفي الوقت ذاته يجري التعتيم على النابغين والمتفوقين العرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.