إنّ التغيير الأكثر أهمية في مفهوم الاستبداد من العالم القديم إلى العالم الحديث يكمن في دور الشعب في ظل الطاغية. في العصور القديمة، كان الطغاة يتمتعون بالشعبية، لأن الناس كانوا ينظرون إليهم على أنهم يدعمون مصالحهم. غالباً ما كان الطغاة يتخذون إجراءات لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للفقراء؛ وكانت الطبقة الأرستقراطية (التي كتبت التاريخ) هي التي كانت تميل إلى معارضة الطغيان، لأن الطغيان يهدد امتيازاتها التقليدية.
ولكن مع ترسيخ الحكم المطلق في الإمبراطورية الرومانية، تغيّرت شروط النقاش، مع التركيز على مسألة متى أصبحت السلطة الملكية مستبدة بطبيعتها. ومن هنا تنبع فكرة الاستبداد بمعناه الحديث: وهو الوضع الذي ترجح فيه قوة الحاكم على سلطة المحكومين. وهذا التعريف يسمح حتى بتسمية بعض الحكومات التمثيلية بالاستبداد.
كلمة "طاغية" تحمل في طياتها دلالة سلبية. الطاغية هو الحاكم الذي توجد سلطته المطلقة خارج القانون. لذلك، لا يُطلب من الطاغية أبداً تقديم تفسير لأفعاله، سواء كانت جيدة أو سيئة، لمواطنيه. كتب الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" John Locke في القرن السابع عشر في مقالته عن السلطة آنذاك: "الاستبداد هو ممارسة السلطة خارج نطاق الحق. حيثما ينتهي القانون، يبدأ الاستبداد".
ولكن، حتى لو لم يكن هناك تعريف محدد للطاغية، فقد كان هناك حكام كلاسيكيون، لفترة طويلة أو قصيرة من الزمن، سيطروا على الدولة وكان لديهم القدرة على فعل ما يريدون – تأسيس المدن، نقل السكان، شن الحروب، إنشاء مواطنين جدد، أو بناء الآثار، أو جمع الأموال. كان لدى هؤلاء الحكام بعض السمات الأساسية المشتركة. لقد كانوا الحكام الوحيدين الذين يتمتعون بسلطة مباشرة وشخصية على الدولة، وغير مقيدين بالمؤسسات السياسية. ولم تكن قوتهم تعتمد على حقهم في الحكم، بل على قدرتهم على القيادة والاحتفاظ بالسيطرة. كان جميع الطغاة يهدفون إلى تسليم السلطة داخل أسرهم، وقد نجح بعضهم في تأسيس حكم يدوم لأجيال عديدة.
في الكلاسيكيات
يعتبر الطغيان أو الاستبداد موضوعاً مثيراً، وأحد الأفكار الهامة في الفكر الغربي. تحتوي الكلاسيكيات الاجتماعية على طيف واسع من الإشارات إلى الاستبداد وأسبابه وآثاره، وأساليبه، ومُمارسيه، وبدائله. ينظرون إلى الاستبداد من وجهات نظر تاريخية، ودينية، وأخلاقية، وسياسية، وخيالية. إذا كان هناك أي نقطة في النظرية السياسية لا جدال فيها، فيبدو أن الطغيان هو أسوأ فساد للحكومة – أنه سوء استخدام شرّير للسلطة وإساءة عنيفة للبشر الذين يخضعون لها. في حين أن هذا قد يمثل موقفًا متفقًا عليه بين الكلاسيكيات، فهو ليس بالإجماع – فقد اختلف الفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز" Thomas Hobbes مدعيًا أنه لا يوجد تمييز موضوعي مثل كونك شرّيرًا أو فاضلاً بين الملوك. إن أولئك الذين يشعرون بالاستياء من النظام الملكي يسمونه طغيانًا وأولئك الذين يشعرون بالاستياء من الأرستقراطية، يسمونها "الأوليغارشية" Oligarchy أي حكم الأقلية، وكذلك أولئك الذين يجدون أنفسهم حزينين في ظل الديمقراطية، يسمونها فوضًى.
الطغاة في عصرنا
في العصر الحديث، كان الدكتاتوريون الشموليون والفاشيون الذين وصلوا إلى السلطة خلال النصف الأول من القرن العشرين مثل "أدولف هتلر" Adolf Hitler في ألمانيا النازية و"جوزيف ستالين" Joseph Stalin في الاتحاد السوفيتي، مختلفين بشكل كبير عن الحكام المستبدين في أمريكا اللاتينية في مرحلة ما بعد الاستعمار. كان هؤلاء الدكتاتوريون يميلون إلى أن يكونوا أفرادًا يتمتعون بشخصية كاريزمية يحشدون الناس لدعم أيديولوجية حزب سياسي واحد مثل الأحزاب النازية والشيوعية. باستخدام الخوف والدعاية لخنق المعارضة العامة، سخروا التكنولوجيا الحديثة لتوجيه اقتصاد بلادهم نحو بناء قوات عسكرية متزايدة القوة.
بعد الحرب العالمية الثانية، سقطت الحكومات الضعيفة في العديد من بلدان أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا في أيدي دكتاتوريين شيوعيين على النمط السوفيتي. وقد تظاهر بعض هؤلاء الدكتاتوريين بأنهم رؤساء أو وزراء "منتخبون" على عجل، والذين أسسوا حكم الحزب الواحد الاستبدادي من خلال قمع كل أشكال المعارضة. واستخدم آخرون القوة الغاشمة ببساطة لتأسيس ديكتاتوريات عسكرية. لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه في عام 1991، سقطت معظم هذه الديكتاتوريات التي ادعت الشيوعية بحلول نهاية القرن العشرين، وتركت وَرَاءها إرثاً من الفوضى في بلادها.
بروتوكول الطغاة.. هكذا يؤدي الاستبداد إلى الفوضى
تعتمد أغلب الدكتاتوريات على مجموعة معقدة من التكتيكات المصممة لتعزيز وترسيخ السلطة، حيث يستغل القادة الديكتاتوريين كل الوسائل الممكنة لضمان بقائهم في الحكم. يبدأ الطاغية غالبًا بتوسيع قاعدته السلطوية من خلال المحسوبية والفساد، محيطًا نفسه بشبكة من الأقارب والأصدقاء الموثوق بهم الذين يمكن أن يعتمد عليهم في حماية مصالحه وتأمين استمرار نفوذه. هذا التوسع في القوة يتجاوز غالبًا الأساليب التقليدية، معتمدًا على توزيع المناصب الرفيعة والامتيازات الاقتصادية بين هؤلاء المحسوبين لتأمين الولاء الكامل للنظام.
من ناحية أخرى، يحرص الدكتاتور على احتكار استخدام القوة العسكرية، ما يشمل كبح جماح الاحتجاجات الشعبية ونزع سلاح المدنيين. في أحيان كثيرة، يستفيد الطغاة من التراث العسكري، مثل بعض القادة الذين جاءوا إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، ويستمرون في استخدام الجيش لترسيخ حكمهم. هذا الاحتكار للقوة لا يمنع فقط أي تهديدات داخلية، بل يعزز أيضًا صورة القائد كحامي ومستقر للنظام.
في التعامل مع الأعداء السياسيين، يتبع الديكتاتوريين أساليب متعددة تتراوح بين الإقصاء والتحييد. بعض الدكتاتوريين يختارون الطرق العنيفة والمباشرة مثل القتل أو الاعتقال، بينما يفضل آخرون أساليب أكثر دهاءً مثل تجنيد الخصوم في مناصب ظاهرياً هامة لكنها فعليًا تحت سيطرتهم، مما يضمن عدم تشكيلهم أي تهديد حقيقي للنظام.
كما يميل الديكتاتوريين إلى استغلال العوامل الخارجية والتهديدات الأمنية كفرص لتعزيز الدعم الشعبي وتبرير أفعالهم القمعية. من خلال إنشاء عدو مشترك أو المبالغة في تهديدات معينة، يمكن للدكتاتور توحيد الشعب حول قيادته، مستغلًا النزاعات الخارجية لتعزيز صورته كقائد ضروري ومحوري في أوقات الأزمات.
ويعمد الديكتاتوريين إلى السيطرة الصارمة على المعلومات والإعلام، حيث يتم تحويل وسائل الإعلام إلى أدوات دعاية للنظام. من خلال التحكم في التدفق الحر للمعلومات وتكميم أفواه النقاد، يضمنون الصورة الإيجابية للقيادة و يقمعون أي صوت معارض. ومن خلال تطوير أو استغلال أيديولوجيات موجودة، يسعون لإضفاء الشرعية على حكمهم، مما يعزز القبول الشعبي لسلطتهم كضرورة مفروضة للحفاظ على النظام والاستقرار في المجتمع.
قد تختلف الأساليب التي يستخدمها الدكتاتوريين في تحصين سلطتهم وتوسيع نفوذهم، لكن النتيجة المشتركة غالبًا ما تكون واحدة: توريث شعوبهم نزاعات مستمرة ودول تعاني من الضعف والتهالك. الدكتاتورية، بغض النظر عن كفاءتها المؤقتة أو الاستقرار الظاهري الذي قد تقدمه، تترك في أعقابها إرثًا من الانقسامات العميقة والبنية التحتية المتدهورة، مما يضعف قدرة الدولة على التعافي والنهوض مجددًا. هذه السياسات، التي تتجاهل الحوكمة الرشيدة وتعزيز مؤسسات الدولة الديمقراطية، تسهم في استمرار دورة الفوضى والاضطرابات، مخلفة تحديات جسيمة للأجيال القادمة في بناء مستقبل مستقر ومزدهر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.