عندما استردت مصر سيناء عقب توقيع اتفاقية السلام في أواخر السبعينيات، غمرنا الإعلام بأخبار مشروعات طموحة تهدف إلى استيعاب 3 ملايين نسمة في سيناء على الأقل. وتناقلت الأحاديث حينها عن جمال سواحل العريش المطلة على البحر، حيث تتراص النخيل بشكل مباشر على الشاطئ، وتحدث الإعلام عن خطط طموحة لتأسيس مصايف وقرى سياحية على سواحل سيناء الخلابة.
وكانت هناك مستوطنة يهودية تُدعى "ياميت"، وقد نُص الاتفاق مع المحتلين الإسرائيلين، الذين لا يُعتد بعهودهم، على إخلاء هذه المستوطنة من مستوطنيها اليهود وتسليم منشآتها سليمة، ولكن عند الإخلاء، قاموا بتدميرها بالكامل، فهدموا المباني والمنازل، وأفسدوا الأرض الزراعية، وردموا الآبار. فقادت جريدة الأهرام وغيرها من وسائل الإعلام المصرية حملة تبرعات كبيرة لبناء مدينة مصرية تحمل اسم مدينة الشروق في نفس موقع المستوطنة الإسرائيلية، وإن لم تخني الذاكرة، فقد تم جمع ملايين الجنيهات في ذلك الوقت.
لكن بعد كل هذا الزخم الإعلامي وكلام الصباح الجميل، ماذا تحقق فعلياً من هذه المشروعات؟
فيما يتعلق بالمصايف والقرى السياحية و شواطئ النخيل الفاخرة التي تم وعد الشعب بها، تم تحويل الاهتمام عنها نحو الساحل الشمالي الغربي، حيث تم تأسيس مارينا و مشاريع شقيقة لها، وتم إنفاق مليارات الجنيهات لإنشاء قرى سياحية تحول بعضها إلى مدن كمارينا.
أما ساحل البلاد الشمالي الشرقي في سيناء، فقد تم إهماله بشكل كامل ولم يشهد تعميرًا كما الحال في الساحل الغربي، على الرغم من طبيعته الأكثر جمالاً وموقعه الجغرافي المميز والقريب من منطقة الدلتا والقاهرة. وبالنسبة للمدينة التي تم جمع التبرعات من أجل إنشائها في موقع مستوطنة ياميت، فقد تم التزام بالصمت تمامًا عنها، ولا أعرف في الحقيقة مصير الأموال التي تم جمعها لبنائها.
إذ يبدو أن هناك معارضة إسرائيلية وغربية لتعمير سيناء وزيادة كثافتها السكانية المصرية، لأن وجود كثافة سكانية عالية، سيصب في مصلحة الأمن القومي المصري، إذ سيعتبر تعمير سيناء خط دفاع قوي لمواجهة أي هجوم من الشرق. ولعل التاريخ البعيد والقريب هو ما يشرح لنا ذلك، فربما قلة السكان في سيناء هي التي دفعت عبد الناصر ونظامه العسكري للانسحاب منها مرتين، الأولى في عام 1956 خلال العدوان الثلاثي، مما سمح لإسرائيل باحتلال كامل سيناء وقطاع غزة، ثم تبع ذلك انسحاب آخر في حرب 1967 مما سهّل على الإسرائيليين إعادة احتلال غزة وسيناء.
ولا يخفى على أحد المخططات الصهيونية الاستعمارية منذ عام 1948، التي تسعى لنزع الفلسطينيين من أرضهم وتهجيرهم إلى سيناء، لتخلو أرض فلسطين وتصبح موطناً لليهود فقط.
وخلال العدوان الهمجي الحالي على غزة، ظهرت بشكل جلي مخططات الصهاينة الإجرامية لتفريغ غزة من سكانها وتهجيرهم إلى سيناء، ومن ثم توطين اليهود في المكان الذي يخلونه. فمع بداية الحرب، سعى الاحتلال لتهجير السكان من شمال غزة إلى جنوبها، ثم إلى سيناء. وتعهدت عدة دول بتأسيس مخيمات وتمويل الإنفاق على اللاجئين وتعويض الحكومة المصرية بمليارات الدولارات. رغم ذلك، باءت تلك المحاولات التهجير بالفشل أمام إرادة الفلسطينيين وتمسكهم بأرضهم ورفضهم للتهجير، إضافة إلى رفض الحكومة المصرية العلني لهذه المخططات، رغم الضغوط الإسرائيلية والأمريكية على مصر لقبول التهجير، حتى ولو بصورة مؤقتة.
وهذا ليس أول محاولة لنزع الفلسطينيين من أرضهم، فقد فشل مخطط تهجير سكان غزة إلى سيناء الذي تكرر عدة مرات في 1948، ومطلع الخمسينيات، وفي 1967، وأخيراً خلال العدوان الحالي. لكن هذا لا يعني أيضاً أن الإسرائيليين قد تخلوا عن حلم تهجير سكان غزة إلى سيناء.
ولتحقيق هذا الهوس الاستعماري في المستقبل، يعمل الاحتلال لإبقاء سيناء خالية من السكان، تمهيدًا لأية فرصة قد تسنح في المستقبل القريب أو البعيد لابتلاع غزة ونزع أهلها منها لتهجيرهم إلى سيناء.
لذلك، أرى أن الكثافة السكانية العالية هي أول خطوط الدفاع ضد أي هجوم. فلولا أن غزة تعد من أكثر مناطق العالم كثافةً سكانية، لكان من السهل على الاحتلال اجتياحها. وعلى الرغم من أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تتواجد تقريباً في كل مكان بغزة، إلا أنها فشلت في الوصول إلى أسراها أو قادة المقاومة. كما تعاني هذه القوات بشدة من كمائن المقاومة التي تتربص بها في كل زاوية، والتي تخرج لتصطاد جنود الاحتلال ودباباته حتى في المناطق التي يظن أنه قد أحكم سيطرته عليها، بما في ذلك شمال غزة الذي شهد تهجيراً قسرياً لمعظم سكانه.
أما في حرب أكتوبر عام 1973، بعد عبور الجيش المصري لقناة السويس وتمدده لأكثر من عشرة كم شرق القناة، تمكن الإسرائيليون من اختراق منطقة ضعيفة بين الجيشين الثاني والثالث المصريين وعبروا لغرب القناة في ما عُرف بالثغرة. ولكنهم علموا أن ذلك لا قيمة استراتيجية له إلا إذا استولوا على إحدى مدن القناة. لذلك، حاولوا احتلال الإسماعيلية ولكن فشلوا، فوجهوا قواتهم نحو مدينة السويس. لكن رجال المقاومة الشعبية من سكان السويس بقيادة الشيخ حافظ سلامة، وبالتعاون مع الجيش المصري، دمروا محاولات الإسرائيليين ودباباتهم، مما أجبرهم على الفرار من السويس، تاركين خلفهم دباباتهم المدمرة.
كان الإسرائيليون يسعون للبحث عن نصر يستر خسائرهم وهزيمتهم بعد العبور العظيم. لكن الكثافة السكانية لمدن القناة وتعاون المدنيين مع الجيش المصري أفشل محاولات العدو، وتحولت الثغرة التي ظن العدو أنها ستكون بداية انتصاره إلى موقع لاستنزاف قواته. وبانتهاء الحرب، اضطر العدو الإسرائيلي لسحب قواته من الثغرة إلى شرق القناة، مما سمح للجيش المصري بالسيطرة على كامل ضفتي القناة.
و إذا كانت نصوص اتفاقيات السلام التي وقعها السادات تمنع وجود الجيش المصري بكامل عتاده في سيناء وتجعل معظمها شبه منزوعة السلاح، فإن تعمير سيناء بالسكان والمشروعات الزراعية والصناعية يمكن أن يوفر حماية قوية من أي محاولة لإعادة احتلالها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهو حلم لم يتخلى عنه الاحتلال أبدًا، إلى درجة أن أحد وزرائه صرح بأن إعادة احتلال سيناء ضروري لحماية الأمن القومي لكيانهم ومشروعهم الاستعماري في المنطقة، وقد نشر بعض كبار مسؤوليهم خريطة لدولتهم تشمل كامل أرض سيناء.
إذا كان حلم الاحتلال هو ابتلاع كامل فلسطين بإعادة احتلال غزة من ثم سيناء وزرع مستوطنيه اليهود في غزة بعد تهجير سكانها، فإنه يجب أن يكون سعينا يتمثل في تهجير ملايين المصريين لإعمار سيناء والمكوث بها، وزراعة ساحلها الشمالي الخصب، وإقامة المشروعات الصناعية والسياحية في وسطها وجنوبها. بهذه الطريقة، حينها سيتلاشى كل أمل للاحتلال في إعادة احتلال سيناء أو غزة ونزع أهلها منها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.