يشهد كوكبنا أزمة بيئية تهدد التنوع البيولوجي، تُعرف بـ"الانقراض السادس". تعود أسباب هذه الكارثة البيئية الخطيرة إلى الأنشطة البشرية، وتتداخل فيها عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية على مستوى الفرد والدول، مما يزيد من وطأة التغيرات المناخية والانقراض البيولوجي. تمثل هذه الأزمة تهديدًا وجوديًا يتطلب استجابة فعالة على المستويات العالمية والمحلية. في هذا السياق، تبرز أهمية دراسة أجراها الصحافي البيئي خالد سليمان، ونُشرت في إطار مشروع "الصحافة البيئية في العراق" بتمويل من مؤسسة "أنترنيوز" بعنوان "الانقراض السادس بدأ من قريتي: التنوع الأحيائي على حافة الكارثة".
انطلاقًا من قرية كردستانية: دراسة في الانقراض والتغيرات المناخية
تعتمد الدراسة المعنونة "الانقراض السادس بدأ من قريتي: التنوع الأحيائي على حافة الكارثة" على مجموعة من التقارير الأكاديمية، القصص الصحفية، الروايات الشخصية، والصور، لمناقشة قضية الانقراض وتأثيرات التغيرات المناخية. ينطلق الكتاب، المكون من تسعة عشر فصلا، من قرى ومناطق جبلية في كردستان كنموذج مصغر يعكس ظاهرة الانقراض والتغيرات المناخية العالمية. تتضمن الدراسة روايات شخصية ومقابلات مع السكان المحليين، ومراجعة لسجلات التنوع البيولوجي المحلية، وتحليل لتأثيرات الأنشطة البشرية على البيئة بصورة عالمية. أظهرت النتائج انخفاضًا كبيرًا في أعداد الأنواع النباتية والحيوانية في القرية، نتيجة للتوسع غير المستدام للزراعة، واستخدام المبيدات الحشرية المكثفة، وضعف الوعي البيئي وسوء تنفيذ القوانين، مما أدى إلى تدمير المواطن الطبيعية للعديد من الكائنات. بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت الوضعية بسبب التقلبات المناخية، حيث ساهمت في تدهور الوضع البيئي الهش في المنطقة. على سبيل المثال، لم يؤدّ الجفاف والتلوث إلى فقدان العديد من أنواع الحيوانات البرية فقط، بل أعاق أيضًا الاتصال الصوتي للطيور المغردة، مما يقلل من فرص التزاوج ويهدد بانقراضها، موضحًا تأثير تغير المناخ على التنوع البيولوجي.
الانقراض والتغيرات المناخية من الثورة الصناعية إلى الاستعمار و الثقافة الاستهلاكية
توضح الدراسة أن التغيرات المناخية والانقراض البيولوجي هما نتاج عوامل بشرية متشابكة تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مما يسرع من وتيرة الانقراض والتغيرات المناخية. هذه التغيرات لها آثار جسيمة على العالم.على سبيل المثال، وصل تلوث الهواء إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الأرض والغلاف الجوي، متجاوزًا الحدود الطبيعية، مما قد يحجب ما اعتادت عيون الإنسان رؤيته منذ مئات الآلاف من السنين. وفقا للدراسة "بخلاف حالات الانقراض الخمس التي حدثت جراء ظواهر طبيعية، كان الخامس من بينها قبل 66 مليون عام يحصل الانقراض الحالي للأنواع بسبب النشاط البشري والاستخدام المفرط للموارد الطبيعية، أصبح عمر الأرض قصيرًا جدًا، وذلك بسبب ذكاء البشر" وسبل السيطرة على الأرض. فلو نظرنا إلى عدد البشر من بين جميع الأنواع، نرى انه لا يتجاوز 1% على الكرة الأرضية، لكنه تسبب بفقدان 80% من الكائنات الأخرى".
توضح الدراسة أن للغزو الأوروبي والنزعة الاستهلاكية دورًا كبيرًا في القضاء على أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات في مناطق شاسعة من الكوكب بغرض توفير الطاقة والغذاء لأوروبا، مما أثر على التنوع البيولوجي وساهم في التدهور البيئي. يُعد فقدان 98% من الغابات الشاسعة في هايتي في جزر البحر الكاريبي مثالا بارزا. تم قطع أشجار الغابات وتصديرها للمستعمر الفرنسي في القرن الثامن عشر كتعويض عن استقلال هايتي. وهناك أمثلة عدة منها القضاء على البطريق الكبير في المحيط الأطلسي للاستفادة من لحمه واستغلال ريشه في صناعة السائد، وقبل ذلك القضاء على السلاحف النهرية العملاقة في أحواض الأمازون في القرن الخامس عشر، مما تسبب في تدهور بيئي كبير.
يكتب سليمان: "استخراج الزيت من بيض السلاحف بغية الإضاءة والطهي كان اكتشافًا يوازي بأهميته اكتشاف القارة الأمريكية بعينها. إنتاج ما يقارب مئتي رطل من الزيت عام 1719 في أعالي الأمازون فقط كان علامة على انتصار عظيم للمستعمرين، لكنه قضى على حياة 24 مليون سلحفاة لم تخرج من البيض بعد. وصف علماء الأحياء تلك الممارسة الجائرة بالقتل الافتراضي، حيث لم تغادر السلاحف البيضة بعد. استمر المستعمرون في القضاء على هذا النوع من مجتمع السلاحف الأمازوني قبل الولادة، إلى أن أصبح بيض هذه السلاحف صناعة مربحة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ كان يتم حصاد ما لا يقل عن 48 مليون بيضة سنويًا لتزويد صناعة الزيوت والأنوار في البيوت الأوروبية. تم القضاء على أعداد هائلة من السلاحف الطفاشة، مما ترك آثارًا مدمرة على التنوع الحيوي والنظام البيئي لمنطقة حوض الأمازون، التي تعاني اليوم من الشركات الاستثمارية الثقيلة."
بالإضافة إلى ذلك، توضح الدراسة كيف أن القوى الاستعمارية الرأسمالية والاستهلاكية فرضت أنماطًا زراعية وصناعية غير مستدامة، مما أدى إلى استنزاف الموارد الطبيعية وتدهور البيئة. هذه التأثيرات لا تزال مستمرة حتى اليوم، حيث تعتمد العديد من الدول النامية على نظم اقتصادية فرضتها القوى الاستعمارية السابقة، مما يزيد من الضغط على البيئة.
الدراسة تعود بالقارئ إلى تأثير الثورة الصناعية على الاحتباس الحراري والمساهمة في الإضرار بالتنوع البيولوجي، وتنبه إلى الآثار الكارثية للنظام الرأسمالي على البيئة، حيث يهدف دائمًا إلى تحقيق أقصى قدر من الربح على حساب البيئة من خلال الإنتاج والاستهلاك غير المستدامين. يتم استغلال الموارد الطبيعية بشكل مفرط لتلبية الطلب المتزايد على السلع والخدمات، مما يؤدي إلى تدهور البيئة وتغير المناخ بسبب الانبعاثات الكبيرة من الغازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة الصناعية والزراعية. تشجع الرأسمالية على الابتكارات التكنولوجية التي قد تكون ضارة بالبيئة، وذلك من خلال تحسين كفاءة الإنتاج وزيادة الإنتاج باستخدام مواد كيميائية وممارسات زراعية مكثفة تلوث التربة والمياه والهواء.
وهنا ينوه الكاتب إلى التداخل الهام بين ظاهرتي "تغير المناخ والاحترار العالمي" وعلاقتهما بالثورة الصناعية والرأسمالية والقوى الكبرى، مع التأكيد على تزييف الوعي حول هذه المفاهيم. وفقًا للدراسة، "تتداخل ظاهرتا 'تغير المناخ والاحترار العالمي' ضمن الرواية الرأسمالية"، حيث تم تغيير التسمية من الاحترار العالمي إلى تغير المناخ ربما للتخفيف من الانتباه عن دور الصناعة في تدمير المناخ. ويشير الكاتب إلى أن الرواية الرأسمالية تخلو من حديث عن التدهور البيئي قبل الثورة الصناعية، مما يبرز دور الإنسان الكبير في تغيرات الأرض من خلال استخدام المزيد من الوقود الأحفوري.
إلى جانب ذلك، تهمل الأسواق الحرة غالبًا تكلفة الأضرار البيئية، مما يجعل من الصعب تنفيذ سياسات مستدامة. يمكننا هنا الإشارة إلى آثار التجارة الحرة في غياب العدالة الاجتماعية والاهتمام العالمي بالوضع البيئي، كما في حال استيراد أرجل الضفادع من الدول الفقيرة لتصبح جزءًا من الوجبات في بعض البلدان الأوروبية، مما يؤدي إلى فقدان تنوع الأنواع البيئية في البلدان الفقيرة. يقول الكاتب: "تشكل إندونيسيا المورد الرئيسي للاتحاد الأوروبي وتوفر (74%) من لحوم الضفادع لأسواقه، تليها فيتنام (21) وتركيا (4)، وألبانيا (0.7)". يتم صيد جميع الضفادع تقريبًا في إندونيسيا وجزء كبير منها في تركيا من البرية، مع تحذيرات من انقراض ضفادع المياه المحلية بحلول عام 2032 بسبب استمرار مستويات الاستغلال الحالية. ويُذكر أن قوانين الاتحاد الأوروبي تحمي الضفادع الأصلية في الدول الأعضاء، لكنها تسمح بصيدها واستيرادها من أجزاء أخرى من العالم للاستهلاك البشري أو كحيوانات أليفة، مما يسهم في التهديد بالانقراض للضفادع في تلك المناطق."
الفقر والفساد والتدهور البيئي
إن كان غياب الوعي البيئي على المستوى الفردي وهيمنة النزعة الاستهلاكية في المجتمعات المتقدمة يساهمان في الإضرار بالتنوع البيولوجي، حيث يتم الاعتماد بشكل جائر على أنواع معينة في الديكور ومستحضرات التجميل وحتى الهوايات، فإن الحاجة في المجتمعات الفقيرة تؤدي إلى استغلال غير مستدام للموارد الطبيعية. يعتمد السكان في المناطق الفقيرة بشكل مفرط على الموارد المحلية للحصول على الغذاء والوقود، مما يؤدي إلى تدهور البيئة. الضغط على الغابات، الأراضي الزراعية، والموارد المائية يزيد من معدلات التآكل، فقدان التنوع البيولوجي، وتغير المناخ المحلي. تضطر المجتمعات الفقيرة إلى اللجوء إلى قطع الأشجار والزراعة المكثفة كمصادر رزق، مما يؤدي إلى إزالة الغابات وفقدان المواطن الطبيعية للحياة البرية، وبالتالي تراجع التنوع البيولوجي وزيادة انبعاثات الكربون.
يكتب سليمان: "إن سكان الأرياف في البلدان النامية، بحسب تقييم جديد للمنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية (IPBES)، هم الأكثر لجوءًا إلى الممارسات غير المستدامة، إذ يجبرهم الافتقار إلى البدائل الغذائية على المزيد من استغلال الأنواع البرية المهددة بالفعل. ما يقارب (70%) من فقراء العالم يعتمدون بشكل مباشر على الأحياء البرية. يعد الفطر والطحالب والنباتات البرية مصادر للغذاء والدخل لواحد من كل خمسة أشخاص، فيما يعتمد ملياران وأربعمائة ألف شخص على الخشب كوقود للطهي، ويعمل ما يقارب 120 مليون صياد تقليدي على نطاق صغير".
في ظل غياب الوعي وانتشار الفقر والرأسمالية المتوحشة، يمثل الفساد عقبة كبيرة أمام جهود الحفاظ على البيئة، حيث ينتشر في المؤسسات الحكومية المسؤولة عن حماية البيئة وإدارة الموارد الطبيعية. نتيجة لذلك، يتم تجاهل القوانين البيئية أو تطبيقها بشكل غير كافٍ، مما يتيح للشركات استغلال الموارد الطبيعية. فمثلا في عام 2015، كشفت وثائق داخلية لشركة إيكسون موبيل عن معرفتها بأضرار صناعات الوقود الأحفوري على تغير المناخ، وتوقعاتها بارتفاع متوسط درجات الحرارة بين (2) إلى (4) درجات مئوية لكل عقد. الشركة أخفت هذه المعلومات عن الصحافة والرأي العام، وكانت هناك وثائق تظهر معرفة الشركة واتحادات صناعة النفط والفحم منذ خمسينيات القرن الماضي على الأقل.
يزداد الوضع سوءا في الدول الفقيرة التي تعتبر أكثر البلدان تأثرًا بالتغيرات المناخية والتدهور البيئي. تزدهر الأنشطة الضارة مثل التعدين غير القانوني، وقطع الأشجار غير القانوني، والصيد الجائر بسبب الفساد وغياب القوانين المفعلة مما يدمر الموائل الطبيعية ويقلل من أعداد الأنواع الحيوانية والنباتية، ويساهم في الانقراض. كما يقلل الفساد من فعالية المبادرات البيئية الدولية التي تهدف إلى حماية التنوع البيولوجي ومكافحة التغيرات المناخية.
رؤية ومقترحات للمساهمة في الحفاظ على الحياة على كوكب الأرض
الاهتمام بتغير المناخ ليس مجرد رفاهية أو أمر ثانوي، بل أمر حيوي وضروري، كما توضح الدراسة بأربعة أسباب رئيسية للقلق والتيارات المتسارعة نحو كارثة مناخية عالمية. تعكس هذه الدراسة الدور الهام للمناخ في تغييرات تاريخية عميقة على مستوى العالم، من الانقراضات الجماعية إلى إعادة صياغة الحضارات. تشير أيضًا إلى تهديدات كبيرة مثل الصراعات الدولية وتفاقم الأمراض المعدية بسبب التغيرات المناخية. تزيد هذه التحولات من الضغوط الاقتصادية وتهدد بفقدان الأمن الغذائي، مما يزيد من خطر الفشل النظامي الشامل. بالإضافة إلى ذلك، تحذر الدراسة من آثار كوارث غير متحكم بها، مثل الحروب النووية، التي قد تعجل من تدهور البيئة وتحول دون قدرة البشرية على التعافي.
في هذا السياق، يشدد سليمان، كمراقب وصحافي بيئي، على أهمية تبني رؤى شاملة للتغييرات البيئية، تتطلب التفاعل ما بين السياسات والمجتمع والاقتصاد والتكنولوجيا. لا يمكن أن تقتصر مسؤولية مواجهة التحديات المناخية على علماء البيئة والمسؤولين فقط، بل هي قضية اجتماعية يجب على الجميع المشاركة فيها بشكل فعال. تؤكد الدراسة على ضرورة اتخاذ سياسات زراعية مستدامة، وزيادة الوعي البيئي بين السكان المحليين، وتعزيز التعاون بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية. يجب على المجتمعات الدولية والمحلية التعاون لمواجهة هذا التحدي البيئي الهائل من خلال تبني سياسات مستدامة، ومكافحة الفساد، وتعزيز العدالة الاجتماعية.
بذلك، تُعتبر هذه الدراسة إضافة هامة وضرورية في وقتنا الحالي، وخصوصًا في مجتمعاتنا التي ينتشر فيها الفقر والفساد وغياب الوعي البيئي والعدالة الاجتماعية. يمكن الاعتماد على هذه الدراسة في ورش العمل والندوات لشرح التحديات البيئية، وفي المقالات الصحفية والمدونات لرفع الوعي العام. كما يمكن للمنظمات البيئية استخدامها في حملات مناصرة لحماية التنوع البيولوجي، وللمعلمين في المدارس والجامعات لتعليم الطلاب حول التحديات البيئية. من خلال هذه الطرق، يمكن تعزيز فهم المجتمع للقضايا البيئية ودعم الجهود العالمية للحفاظ على التنوع البيولوجي ومكافحة التغيرات المناخية والانقراض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.