في كل أصقاع المعمورة، يوجد معاملات رسمية وأوراق قانونية يتوجب على المواطن العمل عليها واستخراجها كي يكون مواطنا معترفا به حكوميا ومدنيا. وللحصول على هذا الكنز الورقي الثمين، يُطلق المرء العنان لساقيه، ويتوجه إلى أقرب دائرة حكومية ليُجري المُقتضى وينال ما به يرضى. هذا إذا ما كانت، أصلاً، المعاملات تنطلق بالحبال الإلكترونية من بريد المواطن إلى بريد "الوطن"، وينتهي كل شيء بنقر مفتاح "أرسل". أما في رقعتنا الجغرافية، فالورقة ليست بهذه السهولة: فإنّ الممرات المزدحمة والطوابير المتبعثرة تشتاق إلينا وإلى تذمرنا وتململنا كل ما شاء القدر أن نستخرج ورقة لأي صنف انتمت.
على مشارف العام السابق للحرب على سورية، كنت أهمُّ بإنجاز معاملة إعفائي من الخدمة الإلزامية لكوني وحيد أبوي. فسافرت من لبنان، بلدي من طرف أمي ومكان ولادتي، إلى وطني سورية لإنجاز هذا الاستحقاق بما يرضي القانون ويرضيني، ويمكّنُني من متابعة حياتي كمواطن ليس عليه حرج في الدخول أو الخروج عبر الحدود، وليس عرضة للإشارة شارة إليه بالتقصير المشهود. انطلقت عجلة المعاملة، وخضعتُ لكافة الفحوص والكشوفات والاستفسارات اللازمة للتأكد من أني جديرٌ بالإعفاء، وكان يجب عليّ أن أنتظر لأشهر معدودة حتى أحصل على الإعفاء قانونيا. لكنّ القدر أذاع نبأ تعطيل عجلة المعاملة بسبب الحرب التي بسطت جناحيها فوق سورية. وعلى ذلك المفترق المباغت، كنتُ مجبراً أن أتابع المعاملة عن طريق السفارة في بيروت. لكن هذا الصرح الدبلوماسي لم يُنقذ ما حملتهُ من أمل بأن لا أُصنّف "متخلفا" عن الخدمة بسبب ظرف خارج عن إرادتي. وطالت المسألة من سنة 2010 حتى هذا العام 2024، بحيث استطعت وبعد جهد جاهد أن أنال درجة "معفى". كل ذاك الزمن الغابر، لم يمضِ دون مجهود. فقد استعنتُ-مكرهاً- بوسطاء وبعضًا ممن ادّعى أنه يعرف فلانا ويمون على "علاّن"، لكن "الواسطة" لم تُصب، بل زعزعت أمالي وزكّت خيباتي في كل مرة كنت أظن فيها أن الفرج قد خرج، وأتفاجأ أنه جاء ليقرع الباب، ولكن في اللحظة الأخيرة، تراجع وانحرج.
معاملةٌ رسميةٌ تأخذُ أربعة عشر عامًا من عمري كي تُنجز، بواسطة "فاشلة" وبدون. معاملةٌ جعلتني أصدق كل من وعدني بأنه سيحل المعضلة ويأتي بالخبر المنشود. وأستطرد هنا بالسؤال: ما دور السفارات في مثل هذه الظروف؟ وأعني هنا في ظرف الحرب وليس الآن بعد أن هدأت الأمور نوعًا ما، وصارت هذه المعاملات أسهل من ذي قبل عبر السفارة. لماذا كان عليّ أن أنتظر أعوامًا طِوال حتى أنال حقي؟ متى سينتهي كابوس البيروقراطية والتناطح الإداري في وطن "قاسيون"؟ متى ستضع الحكومة حدًّا لسماسرة الحرب الذين يزيدون من أعباء المعاملات على كاهل المواطن السوري؟ متى ستبدأ المحاسبة الفعلية والمكاشفة القانونية التي تجمّد حركة "دراكولات" الدوائر والإدارات؟
نحن المواطنون لا يجب أن نكون بحاجة إلى وساطة من هنا وهناك حتى ننجز أوراقنا الرسمية بشكل قانوني: فالواسطة هي أداة لتمرير ما هو مخالف ومربح وليس ما هو حق إجرائي وعقد بين المواطن النظيف والدولة.
قبل أن تنتقلوا إلى المقال الجار، دعوني أخبركم بأن "حضرتي" كاتب هذا المقال أصنّف "أمّيًّا" في وطني لمجرّد أن شهاداتي اللبنانية استُشهدت على أدراج الدوائر الرسمية لأنها غير خاضعة لسلسلة طويلة من المصادقات. ومن هنا، لابد من الإشارة إلى ضرورة المسارعة في تنشيط عجلة التطوير الإداري وإنعاش الوعي المدني لخوض منازلة ضد كل أشكال المحسوبية والبازار المفتوح لمن يدفع أكثر لينجز معاملته بوقت أسرع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.