اليمين لم يخسر بعد واليسار ما زال هشًا.. أي قراءة للانتخابات التشريعية الفرنسية؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/10 الساعة 08:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/10 الساعة 08:42 بتوقيت غرينتش
احتفالات في باريس بنتائج الانتخابات التشريعية/رويترز

انتهت الانتخابات التشريعية المبكرة التي نادى إليها إيمانويل ماكرون في فرنسا بمفاجأة تصدر اليسار الاجتماعي للنتائج مقابل هزيمة اليمين الشعبوي، بعد ريمونتادا سياسية قل نظيرها في النماذج الديموقراطية العالمية، لتترنح فرنسا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في أقل من أسبوع انتخابي مثير، لكنها تنذر بما لا شك فيه بمصير مجهول سيحوم لمدة غير قليلة على نظام الحوكمة في الجمهورية الفرنسية الخامسة وربما هو الأول من نوعه في تاريخها.

انتخابات بلا ميعاد

لم يكن موعد الانتخابات مبرمجًا حتى صدور نتائج التشريعيات الأوربية يونيو الماضي، والتي اكتسح فيها التجمع الوطني اليميني لآل لوبان الأصوات منذرًا لأول مرة الطبقة السياسية الفرنسية بأنه يتجه بخطى ثابتة نحو باريس بعد فوزه في بروكسل، في وقت خيب معسكر ماكرون الآمال أوروبيا ما دفعه إلى اتخاذ قرار حل الجمعية الوطنية ساعات بُعَيْد صدور النتائج، في خطوة سياسية مفاجئة لا تزال القراءات لم تتفق على دواعيها. وتصوري أن إيمانويل ماكرون قرر تسبيق الانتخابات لِلَجْمِ صعود اليمين المتطرف وقطع الطريق عليه قبل الأوان مستغلًا الاستقطاب الظرفي الحاد الذي تعرفه التيارات السياسية في البلاد والتمايز الواضح بين المكونات الحزبية دون انتظار تشريعيات 2027 التي يصعب حتميا التنبؤ بها.

فسيفساء غير قابلة للتماهي

لقد أتت نتائج الانتخابات بفسيفساء برلمانية منقسمة عمليًا إلى ثلاث كتل، اليسار تحت مسمى الجبهة الشعبية الجديدة وهو المتصدر بحوالي  182  مقعدًا. ثم يليه الوسط الرئاسي متمثلاً في كتلة ماكرون ب  168  مقعدًا. أما اليمين المتطرف فاكتفى بـ  143  مقعدًا. هذا المزيج على تقاربه يجعل تشكيل حكومة وطنية مهمة شبه مستحيلة لسببين رئيسيين: أولًا، عدم حيازة أي كتلة للأغلبية المطلقة التي تمكنها من الحكم بأريحية. وثانيًا، صعوبة ميلاد أي تحالف بين أي من الكتل الثلاث بسبب الفوارق البرامجية والإيديولوجية الشاسعة.  هذا هو الفخ الأكبر الذي حتم على الرئاسة تمديد الحكومة الحالية على سبيل تصريف الأعمال إلى موعد لاحق.

إن السلوك الانتخابي للمواطن الفرنسي هذه المرة قد كان متناقضًا ومميزًا وغير متوقع بتاتا، فما بين أسبوع واحد استطاع نقل الأطماع من المعسكر اليميني المتطرف إلى كتلة اليسار التي لم تتوقع هي أصلا إمكانية فوزها، في إحدى النماذج الانتخابية القليلة التي لا تصيب فيها توقعات سبر الآراء في فرنسا.

اليمين المتطرف لم يخسر بعد

الإفراز الأول هو استمرار تنامي اليمين المتطرف في فرنسا وتحقيقه لنتائج تعتبر تاريخية وأي قراءة موضعية لا شك أنها لا بد أن تبدأ من هذا الاستنتاج، فرغم الهزيمة غير المتوقعة إلا أن حزب التجمع الوطني قد ضاعف مستوى تمثيله وأصبح نظريًا الحزب الأكبر في البلاد بواقع  126  مقعدًا، متقدمًا حتى على حزب فرنسا الأبية ذو الحصة الأكبر في التكتل اليساري بـ77 مقعدًا وعلى حزب النهضة ذو الحصة الأكبر في التكتل الوسطي بـ98 مقعدًا. ومن الجائز القول في ظل المعطيات الحالية أن اليمين المتطرف لم يخسر بل تأجل فوزه بالنظر إلى أن الحسابات الانتخابية ولعبة التحالفات والانسحابات بين كتلتي الوسط واليسار -خصوصًا في الدور الثاني- هي التي رمت به بعيدا بعد أن كان يهم بدخول قصر الحكومة.  

اليسار الفائز.. والهش أيضًا

لا تخفى عن أحد هشاشة التحالف اليساري الفائز الذي وُلد لتوه مع بداية الحملة الانتخابية لأسباب ظرفية أكثر منها مبدئية تتعلق أساسًا بهدف واحد هو منع وصول التجمع الوطني لسدة الحكم، والذي سيكون بقاءه على قيد الحياة أكبر تحدٍ بالنسبة له قبل أن يفكر في الحكم في ظل اختلافات جوهرية تفرق أكثر مما تجمع بين الأحزاب الأربعة المكونة له خصوصًا في قضايا الهجرة والسياسة الخارجية والإصلاحات الاقتصادية. ورغم أن حزب فرنسا الأبية هو الأكثر تمثيلًا والأكثر راديكالية إلا أنه لن يستطيع إقناع الحزبين الاشتراكي والشيوعي ببرنامجه الاجتماعي وحتى الخارجي -وعلى رأسه الاعتراف بالدولة الفلسطينية- مثلما لن يستطيع الاشتراكيون التخلي عن فرنسا الأبية باعتباره الأكثر قدرة على الحشد والتعبئة خصوصًا في أوساط المهاجرين ومزدوجي الجنسية المتمركزين في الأحياء الشعبية بما فيهم الشخصيات الرياضية والفنية ذات الأصول المغاربية والإفريقية، والذين أصبحوا رقمًا صعبا في أي مسار انتخابي.

حفرة ماكرون التي وقع فيها!

لا شك أن الكتلة الرئاسية أو ما يطلق عليهم اسم "الماكرونيون" تعتبر ربما هي الخاسر الأكبر في هذا الاستحقاق، وخسارة ماكرون للأغلبية البرلمانية لا تعكس سوى عدم رضا أغلبية الناخبين عن السياسات المتبعة في الولاية الثانية لرئيسهم، وهي خيبة أخرى تضاف لحركة (معا) الرئاسية وتعجل بسقوطها من الحكم بعد الفارق البسيط المسجل مع لوبان في الرئاسيات الماضية ثم خسارة الأغلبية لصالح حزب التجمع الوطني في البرلمان الأوروبي. وبقدر ما تنفس ماكرون الصعداء لهزيمة اليمين بقدر ما سيحتاج إلى حبس أنفاسه مرة أخرى حين تعامله مع فوز اليسار، ففي غياب أي بوادر لإنقاذ مصير الكتلة الرئاسية سيضطر -بعد رفضه الاستقالة كخيار مطروح- إلى تقاسم السلطة فصاعدًا مع اليسار الفائز، في شراكة لن تكون سهلة لو قررها بسبب التجاذبات الكبيرة مع اليسار والتي لا تقل عن تلك التي كانت مع اليمين المتطرف. وقد يملك ماكرون دستوريًا مفاتيح تقرير هذه الشراكة مثلما يملك خيار الالتفاف على البرلمان الحالي بتكوين حكومة تكنوقراط غير متحزبة لم تعهدها الجمهورية الخامسة، لكن ذلك سيكلفه التضحية ببرنامجه وبالتالي فرصة إصلاح معسكره وإرجاعه إلى السكة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]


مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بوودن رمزي
طالب ومدوّن مهتم بالشأن السياسي والثقافي
طالب طب بكلية قسنطينة في الجزائر، ومدوّن مهتم بالشأن السياسي والثقافي عربياً وعالمياً، وكاتب في العديد من المواقع والمجلات العربية.
تحميل المزيد