إذا كانت السياسة مجالًا خصبًا للكذب والمناورات والمناوشات، فإن الصورة أبلغ وأشد من ألف مقال وكتاب. الصور القادمة من غزة غيرت وجهة نظري ونظر الكثيرين في الحياة، إذ أنها عكست الحقيقة بوضوح وجسدت الواقع بشكل أوضح كيف تعجز لغات البشر عن وصفه في أحيان كثيرة.
خلال الحروب التي أقدم عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة، منذ عام 2008 وحتى العام 2022، كانت تتواجد في الميدان عدسات الصحافيين الأجانب ونظرائهم الفلسطينيين. معظم هؤلاء الصحافيين كانوا يصوغون تقاريرهم ويوثقون لحظاتهم الصحفية بجانب صحفي غزة، ولكن في هذه الحرب الطاحنة، التي قد تكون الأشد فتكاً في عصرنا الحديث، وجد الصحافيين والمصورين الفلسطينيين أنفسهم معزولين، يعملون بمفردهم تحت وابل النيران.
فكان على هؤلاء الأبطال أن يواجهوا لحظات الألم القصوى بينما يوثقون مآسي أهلهم وأحبائهم. لا يمكن للعقل أن يستوعب كيف استطاع هؤلاء المصورون أن يمسكوا بكاميراتهم وهم يرصدون أحباءهم يودعون الحياة، ضحايا للقنابل التي شوهت أجسادهم البريئة. ربما كان يحدوهم الأمل بأن تلك الصور المؤلمة، التي يلتقطونها بأيدي مرتعشة، قد تهز ضمير العالم ليستفيق من سباته ويتحرك لوقف هذا الجنون، لينقذ ما تبقى من الأطفال والأرواح البريئة. أو لعل إيمانهم بالعدالة يشحذ عزيمتهم، مؤمنين بأنهم، يوماً ما، سيأخذون ثأرهم ويستردون حقهم.
منذ اللحظات الأولى للعدوان الإسرائيلي، امتلأت أرض غزة بالضحايا نتيجة القصف المتوحش الإسرائيلي ، رغم ذلك، استطاع بعض الشباب أن يتمالكوا أنفسهم وسط الجحيم، ليتحولوا لمقاومين هم أيضاً، موثقين بعدسات كاميراتهم وهواتفهم المحمولة الوقائع المروعة. لتنقل هذه العدسات صور الفجائع التي تحل بالأطفال والنساء والعائلات التي أزهقت أرواح أفرادها بالكامل، ومحيت أسماؤهم من السجل المدني تحت وطأة القصف الصاروخي والمدفعي الإسرائيلي.
في هذه الحرب الإبادية، أصبحت صور هؤلاء الشباب والشابات، بطولة استثنائية صامدة في وجه الظلم، حيث أحدثت هذه الصور القاسية زلزالاً في مزاج الرأي العام العالمي، الذي كان يُظهر تأييده ودعمه لدولة الاحتلال، مصوراً إياها كـ "ضحية العنف العربي الفلسطيني".
كلّ هذه الجرائم المُرتكَبة ما كانت لتنكشف لولا جهود الصحافيّين والمصوّرين الفلسطينيّين في تسليط الضوء عليها، والمُخاطرة بحياتهم، ليرى الرأي العامّ الغربيّ والأميركيّ ما يتعارض مع القيم التي نشأ عليها، ويعرف مدى التضليل الإعلاميّ الإسرائيليّ والإعلام الحليف، الذي مُورس عليهم طيلة العقود الماضية من الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ.
اليوم، تبرز الصورة كأحد أهم أساليب المقاومة في معترك حرب غزة، ولذلك، منذ بداية العدوان البربري على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، استهدف الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين بشكل خاص. فخلال القصف الوحشي والعشوائي لإبادة الجميع، كان حريصاً أيضاً لإسكات الأصوات ومحو الرواية الفلسطينية، في مسعى يائس لطمس الحقائق وعرقلة تدفق الأخبار والمعلومات إلى العالم.
للدلالة على الطابع الممنهج لاستهداف كل من يمكن أن يوصل الحقيقة بالصورة، يكفي الإشارة إلى أن هذا العدد الكبير من الضحايا من الصحفيين في فترة زمنية قصيرة لم يسبق له مثيل، لا في الحروب العالمية، ولا خلال الحروب في فيتنام، البوسنة، العراق، أفغانستان، وحتى في أوكرانيا، لم يكن التهديد لمهنة الصحافة بهذا القدر من الخطورة في أي صراع آخر كما هو الحال اليوم.
إن الصورة، إذًا، منجزة أكثر من الكلام في بعض الحروب، لأن حروب الكلام تنتج الكلام أكثر من الصمت، حتى ولو أفحم أحد الأطرافَ الأخرى بالإقناع والحجاج أو السخرية. أما الصور فمهما خلقت من ضجيج فإنه يكون كلاميًا؛ لأن الصورة تصيب المقتل مباشرة وتؤجج العواطف، تكون قد دّمرت أوهام وغيّرت مسارًا وتركت ما تركته من آثار مدمرة وأخرى بناءة، مثل عاصفة هوجاء تحصد في طريقها الأخضر واليابس، لكيلا نكتشف آثارها إلا بعد مرورها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.