الثلاثين من أغسطس/آب عام 2016 كان صباحاً عادياً في مقديشو. كان السكون عميقاً في فندق (SYL) المطل على البوابة الجنوبية للقصر الرئاسي (ڤيلا صوماليا)، ولا يُسمع في الغرف سوى ساعة تتكتك على الجدار وأنغام الطبيعة. في ذاك الصباح كنت مُنعشاً بعد وصول كتابي الأول "جنوباً: ما وراء السافانا" إلى اللمسات الأخيرة. وللكتاب الأول، وما يرافقه من توقعات ومخاوف وتطلعات، وأن يصادف إقبالاً جيداً، بهجته.
وصلت العاصمة قبل يومين، قادماً من مدينة كسمايو ضمن وفد رسمي من ولاية جوبا للمشاركة النقاش والاقتراحات المتمحورة حول الجهود المشتركة لتعزيز الأمن والاستقرار في البلاد، و الإطار المنظم للانتخابات التي كانت سوف تُعقد في فبراير/شباط عام 2017. وبما أنني لم أكن ضمن الصف الأول من الوفد، كنت أستغل وجودي في مقديشو لتوسيع دائرة المعارف وتكوين العلاقات، واللقاء مع بعض المثقفين والكتاب وأصدقاء القلم، إضافة إلى ممارسة هوايتي المفضلة؛ كرة القدم في ملاعب المدينة.
ذاك الصباح، وبعد ليلة مليئة باللقاءات الثقافية مع المواهب وأرباب الأقلام في مطعم ليدو للمأكولات البحرية، كنت أكتب مقالاً عن التراث الغنائي الصومالي لما له من أهمية اجتماعية وثقافية وتاريخية، رغم أنه بات -بعد سقوط النظام الشيوعي وتغير المزاج الشعبي- جزءاً غير مهم من تراثنا. كنت متحمساً للفكرة التي كانت تختمر في ذهني منذ سنوات، وهي ترجمة الأغاني الصومالية إلى اللغة العربية، فالتراث الغنائي الصومالي يعتبر مكوناً رئيساً للثقافة الصومالية ورائداً في محيطه، وهذه ليست قناعة رومانسية، بل التراث الغنائي الذي يتكئ على بحر زاخر من العادات والرقصات الفلكلورية والألعاب التقليدية، والطبيعة المتنوعة من البحار والأنهار والصحراء والغابات الاستوائية، إضافة إلى تلاقح الحضارات في القطر الصومالي الذي كان موقعاً تلتقي فيه السحنات واللغات والثراء الموسيقي، أنتج ملحنين وموسيقيين ومطربين نالوا الشهرة والجوائز من المهرجانات المحلية والقطرية، وساهموا في النهضة اللغوية.
لكن يؤسفني أن الفكرة لم تصمد طويلاً أمام عاديات الزمان، بل بعد ترجمة عدة أغاني منها أغنية "بلدوين" التي أصبحت أحدوثة المدن والبوادي، و"الفراشة المخططة" الذائعة الصيت، والكتابة عن ثلاثة من مؤسسي التراث الغنائي الصومالي، ومن صفوة الفنانين الذين نقلوا الأدب من ذاكرة المسنين، وبطون السلاسل الشعرية إلى لسان الشارع، ألقى المشروع قفازات التحدي على وجهي، فخارت العزيمة وضعفت الهمة ووئد الحلم قبل أن يرى النور.
قبل الانفجار بدقائق سمعت طلقات نارية كثيفة من جهة تمثال المناضل السيد محمد عبد الله حسن الذي لا يبعد كثيرًا عن مبنى مجلس الشعب الأسبق، وهو -أي المبنى- شاهد على المأساة الصومالية التي لم تُغَيِّرْ حياتَنا فحسب، بل غَيَّرت محور اهتمامنا، ونظرتَنا للحياة، والدين، والدولة. رغم كثافة النيران إلا أنني لم أعر لها اهتمامًا يُذْكَر، بل واصلت الكتابة، ولكن عندما اقتربت من الفندق، أصبحت الكتابة مستحيلة تحت وابل القنابل وأنغام المدافع.
لم أكن أتوقع أنني على بعد "ضغطة زر" من أكبر انفجار استهدف العاصمة حتى ذلك التاريخ، بل كان في بالي أنها إحدى مواجهات المليشيات المسلحة التي تتقاتل على الفتات والمنافع والسيطرة على التقاطعات المهمة. كنت -كغيري من شرائح المجتمع- مشغولًا بعملي؛ تدوين الأدب الصومالي والمساهمة في نشره ووصوله إلى العالم عبر الترجمة، فيما كان الإرهابيون الذين لا يتمتعون بغريزة العقل والإنسانية يُخَطِّطُون لزرع الموت ونشر الإرهاب في مدينة صمدت أمام سطوة الفصائل، وثورة الضباع الذين حَوَّلُوا مقديشو التي كانت -كغيرها من المدن الموغلة في التاريخ- حكايات وقصائد وذكريات، قبل أن تكون أحياءً ومبانٍ وطرقاتٍ، إلى انفجارات، ودموع، وركام.
فجأة هدأت حدة الرصاص (بعد أن تجاوزت شاحنة الانفجار الحاجز الأمني واقتربت من الفندق) ودخلنا هدوء ما قبل العاصفة. أغلقت الحاسوب المحمول وذهبت نحو المشجب لارتداء الملابس والنزول إلى المطعم ظنًا مني أن المواجهة انتهت وعادت الأمور إلى طبيعتها، ولكن قبل أن أصل إلى المشجب اهتزت الغرفة وتمايلت الدواليب وتطايرت الأبواب وتناثرت الشبابيك وتراقصت العمارة بأكملها قبل أن يبدأ كل شيء بالانفجار.. الجدران، المتاريس الإسمنتية خارج الفندق، أسقف الغرف، اللمبات، السيارات التي كانت تمر على الطريق، جماجم الأبرياء وعظام الضحايا. لابد أن الموقف كان مخيفًا.
مسرعًا نزلت من الطابق الثاني نحو الدور الأرضي والساحة العامة للفندق، كان الدمار مروعًا وكانت الرصاص تهطل كالمطر وبدا كل شيء مختلفًا. خيوط من الدخان.. شلال من الدماء.. آهات وعويل… الناس سكارى لهول ما حدث، والكل يهرول نحو وجهة لا يعرفها. في البهو رأيت رجلًا خمسينيًا يختبئ وراء باب آيل للسقوط ووجهه غارق بالدموع، وأطفال يبكون وهم متعلقون بأحضان أمهاتهم. في وسط حطام مروع صرخة فتاة في منتصف العقد الثالث هزتني من جذوري. كانت تصيح بصوت متهدج: "أنقذوني.. أنقذوني.. أغيثوني.." ولكن من يستطيع إغاثتها أو حتى لديه وقت ليلتفت إليها؟ لقد بلغت القلوب الحناجر، وذهبت العقول فزعًا، وأطل الموت من كل مكان.
في الساحة الشمالية للفندق كان الجو مثقلًا بالدماء وأحلام الموتى وحفر خلفها الانفجار، ودارت معركة حقيقية بين المليشيات المتطرفة وبين فريق الحماية، والخروج من الباب الرئيس لم يعد ممكنًا. عدت إلى غرفتي، لا أعرف ماذا أفعل! هل أنتظر مسلحين حتمًا سيدخلون كل غرفة ويقتلون الحجر قبل البشر، أو أموت وأنا أحاول إنقاذ نفسي، وألا أكون رقمًا مجهولًا وضحية من ضحايا الإرهاب؟ كنت غاضبًا من أنني عاري اليدين ولا أستطيع المقاومة في بلد يُعَد امتلاك السلاح قوة ورجولة وتراثًا.
رغم أن الخوف من الموت أو الأذى النفسي والجسدي طبيعي جدا في مثل هذه المواقف، إلا أنني لم أكن أخاف أيا من هذا. لم أكن أهرب من الموت الذي يدرك الإنسان ولو كان في بروج مشيّدة، ولا من الرصاص التي كنا نذهب إلى ميادينها ونحن أطفال لمشاهدة المليشيات المتقاتلة على سيطرة مدينة كسمايو، وبعد الحرب كنا نروي قصص الوغى وأنواع الأسلحة ومجريات المعركة، وكيف هزمت قبيلة (س) على قبيلة (ص)، وكيف استولت على الأسلحة والعتاد والسيارات المدرعة، بل كنت أرفض أن أموت كحمل وديع، كما كنت أخاف من جروح وتشوهات تؤثر على حياتي وتجعلني أحتاج إلى إنسان.
كانت الغرفة مكتظة بالهاربين من أنياب الموت. خطر في بالي وأنا في وسط غرفة لا أعرف ما المميز فيها حتى يلجأ إليها كل هذه الجموع: "الموت يحوم حولك يا حسن، ونسبة النجاح ضئيلة جداً، فلتكن عورتك مستورة بعد موتك على الأقل". ارتديت بنطلون جينز دون أن أكترث عيون الباحثين عن قش النجاة، والذين لم أستطع تمييز وجوههم رغم أن زميلي محمد حسن حِيس كان من بينهم كما ذكر لي لاحقا. ارتديت السروال على عجل، ولكن لم أستطع أن ألبس قميصاً أو حتى فنيلة داخلية لهول الموقف. لملمت أطراف روحي وقاومت شعور التردد بتفويض أمري إلى الله والاتكال عليه. جلست شرفة الغرفة عاري الصدر، وهيأت نفسي للقفز من الطابق الثاني.
سقطت على الأرض غير مصدق بأنني لم أتعرض لإصابات خطيرة. نهضت وباطني قدمي تؤلمني بشدة. الفوضى تعم المكان.. أنين لا يتوقف لجرحى الانفجار.. وجوه علا عليها الغبار والشظايا.. أجساد ابتلع الانفجار أعمارهم.. وأرواح تتصاعد نحو السماء. ركضت نحو الباب الخلفي للفندق، وصلتُ بينما البعض لم يصل، إذ سقطوا ضحايا ومصابين، والتهمت النيران أجسادهم. خرجت من الفندق والرصاص تظلل المكان. اقتربت من جدار حديقة السلام، وعلى بعد أمتار قليلة منه اشتدت كثافة النيران وأصبحت هدفا مكشوفا لشذاذ الآفاق، فركضت بكل ما أوتي لي من قوة. كان الجدار أملس ومرتفع، ولكن تسلقت بلمح البصر وارتميت على أحضان أشجار عملاقة وارفة الظلال. نجوتُ بأعجوبة وسقطت على الأرض معفراً دامياً.. استندت إلى جذع شجرة مورقة متسائلا بذهول: كيف وصل الأشرار إلى أكثر مناطق العاصمة أمناً؟ وكيف تجاوزوا كل الحواجز والارتكازات الأمنية والجنود؟
كنت حافي القدمين عاري الصدر دائخاً، فبحثت في الغرف القريبة لملعب الحديقة قميصا أستر به جسدي، فأعطاني صديق قديم قميصا ضيقا يفوح منه عرق ورائحة كريهة. ما زلت أتذكر، كان القميص الاحتياطي للفريق الإنجليزي مانشستر يونايتد موسم 2016/2017. في غضون دقائق بدأ المصابون يتساقطون في الحديقة بكثرة، وبدأنا نحن نسعف الجرحى بأدواتنا البسيطة ومعرفتنا القليلة للإسعافات الأولية. بعض الجرحى دخلوا من الأبواب والمداخل، ومعظمهم قفزوا من فوق السور -مثلي تماماً- مما سبب لهم إصابات متنوعة.. كسور في الأرجل والأيدي.. ارتجاج في الرأس.. خلع الأكتاف والعمود الفقري.
وبما أن "المهزوم اذا ابتسم، أفقد المنتصر لذة الفوز" كما قال الكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير، جلسنا نتحدث عن ظلال الموت، وعن الانفجار الذي كان أسوأ انفجار وقع في مقديشو قبل أن تشهد العاصمة مأساة سُوبِي (2017) وكارثة وزارة التعليم (2022)، بل وشربنا الشاي وما زالت الحرب تحتدم في الفندق. كانت نوعاً من التحدي والسعي نحو مقاومة تتجاوز البندقية والمواجهة العسكرية إلى قهر تلك الشرذمة بالضحك والحكايات واللامبالاة، والإثبات بأننا رغم الهول صامدون. ولفتة ترسل أن جدار الخوف قد سقط والحياة ما زالت ممكنة، ولم تعد مجاز حركة الشباب المتطرفة ترهب الشعب الطامح للأمن والتحرير واللحاق بدرب السلام وركب التطور.
لقد انتصر المتطرفون في كثير من الأحيان، وأزهقوا الأرواح ودمروا المدن والبنية التحتية الضعيفة أصلاً، ولكن لم يستطيعوا كسر إرادة الشعب والنيل من روحه المعنوية وتجلده المعهود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.