وفاز اليسار الأقرب للقضية الفلسطينية… لماذا تُشكل نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية إنجازًا تاريخيًا ومفاجئًا؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/09 الساعة 11:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/09 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش
احتفالات في باريس بنتائج الانتخابات التشريعية/رويترز

سقطت كل التوقعات، وفاز تحالف اليسار ("الجبهة الشعبية الجديدة") في الانتخابات التشريعية الفرنسية. 

فاجأت، لا بل أدهشت النتيجة، التي ظهرت على الشاشات في تمام الساعة الثامنة من مساء الأحد 7 يونيو/حزيران 2024، الجميع، بمن فيهم أحزاب "الجبهة الشعبية الجديدة" أنفسهم، ومناصريهم، وناخبيهم. انقلبت الأرقام، والنسب، وعدد المقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية، رأسًا على عقب، وذلك بظرف أسبوع واحد، بين دورتي الانتخابات البرلمانية. 

كثيرة هي التحفظات التي ممكن أن تدفع لكبح الشعور بالسعادة بالفوز، ومنها أنّ ائتلاف اليسار لم يفز بأكثرية مطلقة، بل فقط بأكثرية نسبية؛ وأنّ اليمين المتطرف، رغم حلوله في المركز الثالث، حقق نسبة اقتراع تاريخية لصالحه، وعدد مقاعد يعطيه ثقلاً سياسيًا مهمًا للتأثير في الجمعية الوطنية الجديدة؛ وأنّ الماكرونية لم تنته، كما اعتقد كثير من المراقبين بعيد الدورة الأولى من هذه الانتخابات، بل عادت وحققت المركز الثاني، بفارق غير كبير عن ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي حل في المركز الأول؛ وأنّ تشكيلة الجمعية الوطنية الجديدة تشهد تشظيًا كبيرًا بين القوى السياسية، مما يجعل من تشكيل حكومة أمرًا أكثر صعوبة من العادة، وما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مدى صلابة التضامن الحكومي في الحكومة المرتقبة، وحول قدرتها الفعلية على الحكم.

ولكن، رغم كل التحفظات، فإنه من المستحيل إنكار أنّ ما حصل في فرنسا مساء السابع من يونيو/تموز 2024، يشكل إنجازًا تاريخيًا.

إنجاز تاريخي 

فبحلوله في المركز الثالث، تلقى حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف، صفعة مدوية، ولا سيما أنه كان قد حقق فوزًا كبيرًا في انتخابات البرلمان الأوروبي في التاسع من يونيو/حزيران الماضي، وأنه كان متقدمًا على سائر الأحزاب الأخرى في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي أجريت في 30 يونيو/حزيران. نتائج الدورة الثانية والأخيرة من هذه الانتخابات التشريعية هي رسالة رفض، وجهتها أكثرية الشعب الفرنسي، لخطاب الكراهية، والأحقاد، والتقوقع، والانغلاق، والماضوية، الذي يدأب عليه اليمين المتطرف، وضد الانقسامات التي يؤجج نارها في المجتمع.

أما "أقصى الوسط" الميديوقراطي (راجع الفيلسوف آلان دونو حول التعبير)، النيوليبرالي الماكروني، الذي انتهج بعنف، في السنوات السبع الماضية، سياسة التدمير الاجتماعي، وشطب الحقوق الاجتماعية المكتسبة، والذي دأب على الركض وراء اليمين المتطرف، معتقدًا أنه يسحب بذلك البساط من تحته، مقدمًا له، على طبق من فضة، وبتعبير مارين لوبين نفسها (رئيسة حزب التجمع الوطني)، "نصرًا إيديولوجيًا"، بعد "نصر إيديولوجي"، فقد خسر أكثريته النسبية التي كان يتمتع بها في الجمعية الوطنية السابقة (2022)، وأصبح عليه أن يكتفي بالمركز الثاني، وراء "الجبهة الشعبية الجديدة". وبذلك يكون قد خسر ماكرون رهانه في حل الجمعية الوطنية، الذي كان أقدم عليه بعيد صدور انتخابات البرلمان الأوروربي في 9 يونيو/حزيران 2024، ولا سيما في تحسين عدد مقاعد حزبه في الجمعية الوطنية، وفي "إيضاح" الصورة في البرلمان الفرنسي، إذ أصبحت أكثر ضبابية مما كانت عليه في السنتين الماضيتين.

نتيجة هذه الانتخابات هي أيضًا هزيمة لسياسة الخيار الحصري التي أراد ماكرون فرضها، مرة جديدة، على الفرنسيين، وهي سياسة قائمة على وضع الفرنسيين، كل مرة، أمام الأمر الواقع، للاختيار بين النيوليبرالية، المتمثلة بإيمانويل ماكرون وحزبه من جهة، وبين الفاشية الجديدة (أو ما بعد الفاشية)، المتمثلة بحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف من جهة أخرى.

كما يكون، بنتيجة هذه الانتخابات، قد تلقى العازفون على نغمة المساواة التعسفية بين اليسار الراديكالي، المتمثل بحزب "فرنسا الأبية" برئاسة جان لوك ميلانشون، وبين اليمين المتطرف، المتمثل بحزب مارين لوبين وجوردان بارديلا، ضربة موجعة، وقد ترافق ذلك مع سقوط الرهان على الارتباك، أو التشويش، المقصود إحداثه في أذهان الناخبين، بفعل خطاب "نبذ التطرفين"، الذي يساوي اعتباطيًا بين ائتلاف اليسار الذي يضم اليسار الراديكالي (حزب "فرنسا الأبية") من جهة أولى، وبين اليمين المتطرف من جهة أخرى.

وفي سياق متصل، تكون أيضًا الحملة الرجعية، المسماة "معاداة الووكيسم" (أو معاداة حركة اليقظة ـ antiwokism)، قد تلقت صفعة قوية، وهي حملة تقوم غالبًا على دجل فكري، لنشر الذعر الثقافي من مناهضة العنصرية، ولشيطنة مناهضة العنصرية، ولتأثيمها، وذلك في أحيان كثيرة بهدف تبرئة العنصريين، وتبرير مبطّن للعنصرية.

كما تعكس نتيجة الانتخابات، خصوصًا، خسارة مدوية لأغلبية وسائل الإعلام في فرنسا، ولا سيما القنوات الإخبارية، التي تنفث سموم الكراهية طوال اليوم، لنشر القلق في نفوس الفرنسيين، واللعب على الشعور بالخوف، ولا سيما عبر شيطنة المهاجرين، ووصم المسلمين بالخطر والإرهاب. ومن الجدير ذكره أنّ الإعلام البديل، ولا سيما على شبكة الإنترنت، قد لعب دورًا أساسيًا في التوعية والحشد ضد اليمين المتطرف، خصوصًا في الفترة القصيرة الفاصلة بين دورتي الاقتراع. 

أما فيما يتعلق بمنطقتنا من العالم، فتعكس نتيجة الانتخابات الفرنسية تهاويًا للسردية القائمة على شيطنة التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته المحقة، وعقم خطاب لوم الضحية، وهو اللوم الناتج عن محاولة قلب الحقائق والمعادلات من خلال تأثيم من يقوم بإدانة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي (كحزب "فرنسا الأبية"); كما جاءت نتيجة الانتخابات، بجزء منها، كرسالة رفض لسردية صراع الحضارات، وحرب الثقافات، وعدم إمكانية التعايش فيما بينها، التي يدأب عليها اليمين المتطرف.

فرنسا الرابح الأكبر

أما الرابح الأكبر، في مساء السابع من يوليو/تموز، فهم:

ـ الجمهورية الفرنسية، وقيمها في الحرية، والمساواة، والإخاء، وهي قيم تتعارض جذريًا مع ذهنية اليمين المتطرف، وإيديولوجيته، وبرنامجه، ولو ادعى عكس ذلك، 

ـ فرنسا، بلد حقوق الإنسان، والقيم الإنسانية، الدولة المنفتحة على العالم، 

ـ الشعب الفرنسي الذي أثبت أنّه، بأكثريته المتمثلة في "الجبهة الجمهورية" (أو "القوس الجمهوري")، الذين تشكل ما بين دورتي الاقتراع، لقطع الطريق على وصول اليمين المتطرف، شعب واع، شعب حي، شعب يرفض الظلم والظلامية، شعب يستحق الحياة. 

ـ الأمة الفرنسية، التي ترفض المراوحة، وتعرف كيف تحل صراعاتها وتتخطاها في صناديق الاقتراع.

ـ صورة فرنسا في العالم، التي كانت ستتضرر كثيرًا بفعل وصول اليمين المتطرف للحكم. 

محاولات تنغيص فرحة الفوز

أمام هذا الإنجاز التاريخي والدراماتيكي المفاجئ، يحاول اليمين الفرنسي، فضلاً عن حلفائه في العالم، ولا سيما في لبنان مثلاً، من الممتعضين من الهزيمة التاريخية التي ألمت بهم في فرنسا، تنغيص فرحة الفوز على الآخرين، وذلك عبر انتقاد شعبوية رئيس حزب "فرنسا الأبية"، جان لوك ميلانشون، ولا سيما بسبب الخطاب الذي ألقاه بعيد الفوز. 

لا جدال في أنّ ميلانشون سياسي شعبوي، وأنّ "فرنسا الأبية" حزب شعبوي، فمفكرو اليسار الراديكالي، أمثال شانتال موف، نظّروا، في آخر 10 سنوات، لضرورة استفادة اليسار مما يسمونه "اللحظة الشعبوية" (moment populiste) التي تمر بها المجتمعات الليبرالية الغربية، من أجل صياغة "استراتيجية شعبوية يسارية"، تهدف لعدم ترك ساحة الشعبوية لليمين المتطرف وحده، وتمهيدًا لوصول "اليسار التقدمي" للحكم، مما جاء بنتائج عكسية نوعًا ما، إذ جعل اليمين المتطرف الشعبوي يستفيد من انتشار الخطاب الشعبوي في الحياة السياسية، وهو انتشار قد ساهم في تحققه حتى ألد خصم، أي "فرنسا الأبية". 

ولكن، كما يقول المثل، البيروتي غالبًا، "الجمل لو شاف حردبته، وقع وانفكت رقبته". فمن فرح بفوز اليمين المتطرف الشعبوي الفرنسي بانتخابات البرلمان الأوروبي، ومن أمل بوصول هذا اليمين المتطرف الشعبوي للحكم في فرنسا على إثر الانتخابات التشريعية، و/أو من لم يحرك ساكنًا أمام صعود اليمين المتطرف الشعبوي في الدورة الأولى من هذه الانتخابات التشريعية، أو من ساوى زورًا ـ مدعيًا "الوسطية" و"الاعتدال" ـ بين اليسار الراديكالي من جهة، وبين اليمين المتطرف من جهة أخرى، بما يخدم عمليًا اليمين المتطرف، فهو آخر من يحق له الكلام عن شعبوية ميلانشون. 

وبجميع الأحوال، فرغم الانتقادات الكثيرة التي يمكن أن نوجهها له، يبقى ميلانشون، الفرنسي، اليساري الراديكالي الشعبوي، الذي يقف بوجه فاشية اليمين المتطرف، والداعم لقضية حق كالقضية الفلسطينية، أشرف من كثير ممن يغرقون، في العالم العربي، ولا سيما في لبنان، في الخطاب والأفكار الفاشية، و/أو يتنكرون للقضية الفلسطينية، ويفضلون تعزيز السردية الإسرائيلية، التي يعتمدها اليمين المتطرف الفرنسي أيضًا، عما يحدث في غزة منذ 9 أشهر.

مبروك للأحرار في فرنسا، وفي العالم،

ولا عزاء للكراهية وأبواقها!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد