ثمة في السياسة عوامل وتقلبات تدفع بالحاكم إلى البحث عما هو ممكن فعلاً، ليجمع بين الحس الجمعي والثقافة السياسية وعلاقة الناخب بالأحزاب ودور الإعلام في مفاصل الحكم ومؤسسات الدولة خصوصاً وفي المجتمع عموماً. انتهت الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا يوم الأحد 30 يونيو/حزيران؛ جرت هذه الانتخابات بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون الذي حلّ الغرفة السفلى في البرلمان (الجمعية الوطنية) المؤلفة من 577 مقعداً إثر الصدمة التي تلقاها الائتلاف الرئاسي وحزب الرئيس إيمانويل ماكرون النهضة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، تصدر فيها حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني، حزب آل لوبان، للنتائج في فرنسا.
لن تُعرف النتيجة النهائية حتى نهاية التصويت في السابع من يوليو/تموز، حلّ حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني وحلفاؤه في المركز الأول على رأس قائمة المرشحين، حائزاً على نسبة 33 في المئة من أصوات الجولة الأولى، وحلّ تحالف أحزاب يسارية الجبهة الشعبية الجديدة ثانياً مع 28 في المئة من الأصوات. بينما حلّ التحالف الذي قاده الوزير الأول غابرييل عطال ثالثاً بعد حصوله على ما يقارب 21 في المئة من الأصوات. وفاقت نسبة المشاركة 65 في المئة، التي تُعد الأعلى منذ انتخابات عام 1978، انتخابات عام 1981 التشريعية، التي تعد محطة مفصلية في تاريخ الجمهورية الخامسة، أي القطيعة مع اليمين والديغولية ووصول اليسار للحكم.
وتحتاج معظم الدوائر الانتخابية إلى جولة ثانية، بات حزب اليمين المتطرف وحلفاؤه ممثلين للتيار العنصري المغذّي لخطاب الكراهية والمعادي للمهاجرين في فرنسا منذ عقود، مما يشكل مصدر قلق للناخب العربي والمسلم، ويشكل هاجساً لمستقبلهم والتوجهات السياسية والاقتصادية والقوانين التي قد تؤثر على حقوق وحريات المواطن والمقيم الشرعي من أصول عربية وإسلامية.
غياب رؤية وآفاق
متغير الناخب العربي والمسلم غير قادر على أن يحدث تغييراً في الانتخابات العامة في فرنسا، كونه لا يصوت ككتلة واحدة، وصوت الناخب المسلم والعربي مشتتاً كقيادات الهيئات التمثيلية على المستوى القاعدي؛ رغم غالبية الأصوات تصب في رصيد الأحزاب اليسارية خاصة حزب فرنسا الأبية الذي أصبح صوت المهاجرين في الفضاء العام، هذا ما وقع في انتخابات الجولة الأولى. صوّت الناخب العربي والمسلم بكثافة لمرشحي تحالف اليسار الجبهة الشعبية الجديدة في دوائر ضواحي المدن الكبرى — أما الباقون فهم ينتخبون لمرشحي ائتلاف اليمين المتطرف خصوصاً في مدن الجنوب المتوسطة والمناطق شبه الحضرية لأسباب ذاتية يجسدها الجناح المتشدد من بقايا أسر الحركى، والتي تعود أسبابها لثورة التحرير الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي 1954-1962 وتداعياتها الثقافية على هؤلاء الجنود الذين انضموا إلى صفوف جيش الاحتلال الفرنسي بعد هروبهم من الجزائر المستقلة.
صوت الناخب العربي والمسلم كمتغير في الانتخابات العامة في فرنسا ضحية غياب رؤية في توحيد صف الناخب المسلم والعربي بعد الجولة الأولى وظهور النتائج الأولية بتقدم حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني وحلفائه. إلا أننا لم نر بعد موقفاً موّحداً ومتجانساً للجالية العربية والمسلمة.
يركز قادة حزب اليمين المتطرف في الإعلام بشكل كبير على الجالية العربية والمسلمة وعلى الأشخاص ذوي الأصول العربية والأجنبية، والحديث عن منع أصحاب الكفاءات العالية مزدوجي الجنسية من الوصول إلى مناصب حساسة في الإدارة العامة — إنها عودة قضية دريفوس، في نهاية القرن التاسع عشر في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة، هذا ما يجعل فرنسا بلد الأنوار وأرض الحرية والمساواة والأخوة أمام عار جديد؛ إنه معاداة للسامية جديدة. بعد تبييض تيار اليمين المتطرف من عنصريته ومعاداته للسامية من قبل عرّابي الصهيونية العلمانية في فرنسا، يشارك بقوة هذا التيار الفكري المؤثر خلال الأشهر التسع الماضية بعد عملية طوفان الأقصى في فلسطين المحتلة بالتطبيع مع حزب آل لوبان وتعميم سلوك وخطاب اليمين المتطرف في الإعلام المعادي للعرب والمسلمين.
بسبب الآخر
فرنسا تعاني من مشاكل أكثر أهمية من معاداتها للعرب والمسلمين، هناك مشكلة التضخم والقدرة الشرائية، حيث ارتفعت الأسعار بشكل كبير في وقت قصير جداً؛ لا يزال رئيس حزب التجمع الوطني المتطرف جوردان بارديلا يُصر في مناظراته الهزيلة على المهاجرين والأجانب، والغريب أنه هو نفسه من أصول إيطالية بل حتى جزائرية كما نشر في Jeune Afrique أسبوعية.
إنّ عامل الخوف وجعل الآخر هو سبب المشكلة في فرنسا، ليس بجديد ما يقوم به اليوم حزب آل لوبان وحلفاؤهم، هو ما فعله بالضبط حزب اليمين الجمهوري الذي فخّخه الرئيس إيمانويل ماكرون وتبنّاه مؤخراً حزب آل لوبان. ففي عام 1993 عندما تولى اليمين السلطة وقدّم شارل باسكوا، وزير الداخلية آنذاك في حكومة إدوار بالادور، خطاباً يشبه كثيراً خطاب حزب اليمين المتطرف اليوم في عدائه للمهاجرين، ما جعل قضية الهجرة مركزية في السياسة الفرنسية. هذه الأفكار بدأت تتسلل إلى أذهان الناخب الفرنسي اليميني، ووصلت الأمور إلى تغييرات بعد مجيء الرئيس السابق نيكولا ساركوزي عام 2007 الذي كان يظن أنه هو الدرع الواقي لحزب آل لوبان التجمع الوطني، الجبهة الشعبية سابقا، إدخال قضية الهوية الوطنية. بعدها دخل الرئيس إيمانويل ماكرون على الخط حيث أصبح النقاش حول المهاجرين والمسلمين واحداً من أهم المحاور في السجال السياسي بالبلاد.
هناك جزء كبير من المجتمع الفرنسي يعادي العنصرية، مما يعكس وجود معركة واضحة بين العنصريين والمعادين للعنصرية في فرنسا. هذا الصراع ليس فقط بسبب شرعنة السياسيين لخطاب حزب اليمين المتطرف وحلفائه، أيضاً لأن هذه الأفكار متأصلة في المجتمع وتزداد حدتها خلال الأزمات السياسية أو الاقتصادية، وفي هذه الأزمات، وجد آل لوبان وحلفاؤهم من سياسيين وإعلاميين في "الآخر" كبش فداء لتحميله مسؤولية المشكلات الاقتصادية، يعتبرون أن المهاجر هو من يأخذ مناصب الشغل، كما كان يقول الأب الروحي لحزب اليمين المتطرف جون ماري لوبان، وأن المهاجرين يستغلون نظام الخدمات الاجتماعية للحصول على الإعانات الاجتماعية، في حين أن المهاجرين يساهمون سنوياً بـ 10 مليارات يورو في الاقتصاد الفرنسي، وفقاً لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
الإثارة وتزييف الحقيقة
يجرنا للحديث على الجدل الذي أثاره رئيس حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني، جوردان بارديلا، مرشحاً ليصبح أصغر رئيس وزراء في الجمهورية الخامسة، وأول رجل سياسي دون تجربة وخبرة في إدارة الشأن العام بسيرة ذاتية بيضاء تشبه قميصه الأنيق. تحدث في موضوع منع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة وحظر المناصب الاستراتيجية على مزدوجي الجنسية، بالإضافة إلى عزمه على إلغاء حق الإقليم في التجنس في حال وصوله للسلطة. فعلاً هو في حالة نكران تجاه ما يقدمه الملايين من المهاجرين وأبنائهم الوزراء والأطباء والمهندسين والمحامين وفي الإدارة العامة والمصانع والمزارع والفنادق والجامعات ومراكز البحوث ومعهد الصحة العريق معهد باستور المختص بدراسة علم الأحياء والميكروبات والأمراض واللقاحات برعاية البروفيسور ياسمين بلقايد الجزائرية-الفرنسية-الأمريكية.
خطاب رئيس حزب اليمين المتطرف جوردان بارديلا بالعكس، هو يريد إقصاء "الآخر" الذي قدّم الكثير لفرنسا في تحريرها من النازية والتنمية الاقتصادية والارتقاء الفني والرياضي والعلمي. يترك المهاجرون وأبناؤهم يشعرون بعدم الانتماء والأمان في فرنسا، بلد فيكتور هوجو ودومينيك دو فيلبان، رغم أن هذا المكوّن الاجتماعي والثقافي يعيش من عرق جبينه ويشارك في خلق الثروة ويدفع الضرائب في مجتمع أصبح متعدد الثقافات.
الرئيس إيمانويل ماكرون ليس هو الشاب المتحمس الذي أراد أن يغيّر المنظومة السياسية في فرنسا ويعلن ثورة تصحيحية ضد "العالم القديم" كما جاء في كتابه: ثورة معركتنا من أجل فرنسا. هو اليوم ذلك الرئيس المنبوذ، وفي حال فوز حزب اليمين المتطرف وحلفائه بالأغلبية المطلقة بنسبة 50+1 وتحصيل 289 مقعداً من 577، سيجبر الرئيس إيمانويل ماكرون على التعايش مع اليمين المتطرف، ويصبح بطة عرجاء، تحدّ من صلاحياته الدستورية.
الناخب العربي والمسلم اليوم في حيرة كباقي الناخبين باستثناء ناخبي حزب اليمين المتطرف وحلفائه. قدّم لهم الرئيس إيمانويل ماكرون هدية بابا نويل في شهر يونيو/حزيران! العديد من العائلات المهاجرة تفكر بجدية في الهجرة العكسية والعودة حنيناً للوطن بالنسبة للآباء، أما الأبناء منهم، فقد شرعوا في البحث عن فرص عمل في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، والإمارات وقطر وماليزيا وإندونيسيا.
الرئيس إيمانويل ماكرون وعد بالمساواة بين الفرنسيين و"استئصال" أفكار حزب اليمين المتطرف خلال السبع سنوات الماضية، بالعكس عزّز الرئيس إيمانويل ماكرون تموضع اليمين المتطرف في الفضاء العام، وأظهر عداءه الصريح للمسلمين من خلال سن قوانين ضد "الانفصال الإسلامي" وتعزيز قوانين الجمهورية وتشديد قوانين الهجرة من قبل وزير الداخلية جيرالد موسى دارمانان، الذي كان يرى في مارين لوبان أنها متساهلة مع الإسلام، ورئيس الوزراء الحالي، ووزير التربية السابق الذي سن قانوناً لمكافحة اللباس الطويل (العباية) ورئيسة الوزراء السابقة إليزابيث بورن التي جعلت العلمانية مبدأ مقدساً من مبادئ الجمهورية.
ختاماً، الحديث عن صعود تيار اليمين المتطرف في فرنسا هو امتداد لصعود التيارات المتطرفة اليمينية في أوروبا، هو مشروع سياسي موجّه للمهاجرين العرب والمسلمين منذ عام 1989 التي كانت محطة مفصلية في النظام الدولي وفي فرنسا حين انتقل متغير الهجرة والمهاجرين العرب والمسلمين من طابعه العرقي إلى الديني. بالتالي نجح حزب اليمين المتطرف وحلفاؤه في نشر أفكارهم بأريحية، مما أدى إلى تغييرات في النقاش العام في فرنسا بمساعدة الإعلام العنصري المعادي للعرب والمسلمين، لم يعد العنصريون والمعادون للمهاجرين يختبئون ولم يعودوا يتحاشون شتم العرب والمسلمين، بل حتى ينادون وزير الداخلية بـ"موسى" وليس "جيرالد" — إنها الصدمة التي أثارها الرئيس إيمانويل ماكرون بعد قرار حل الجمعية الوطنية في فرنسا، خرج الناخب العربي والمسلم، خصوصاً الشباب، معبّرين عن سخطهم وتهميشهم لمعاقبة حزب النهضة في السلطة والأنتلجنسيا البرجوازية التي عزّزت من صعود اليمين المتطرف، هذه المرة ليس عبر صناديق الاقتراع فقط، بل في شوارع الضواحي بقارورات المولوتوف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.